تتسم العلاقات بين البشر وحتى بين الدول بقدر كبير من التعقّد، فأغلب العلاقات نسبية تتغير طبقاً للموقف الذي حدثت خلاله، فقد نطلق حكماً على طرف ما قد لا نطلقه على طرف مماثل في علاقة متشابهة، ذلك أن لكل موقف ملابساتٍ وسياقاً وزماناً ومكاناً تختلف تماماً عن المواقف الأخرى التي قد تبدو متماثلة، ومن هنا ظهرت أهمية اتباع (روح القانون) عند الحكم على موقف ما وعدم التوقف عند نصوص القانون، وهو ما يعني ضرورة اتباع المبادئ العامة في الحكم على المواقف في كافة المجالات أكثر من الالتزام بالنصوص التي قد يسهل إساءة تفسيرها أو إيجاد العديد من الثغرات بها.

في سياق حديثنا عما يطلق عليه الحكم الموضوعي (أو المحايد) على موقف أو حدث ما، يسعى البعض لأن يتخذ موقفاً عادلاً فيلجأ لما يمكن أن نطلق عليه (مبدأ المسافة الواحدة)؛ بمعنى أن يتخذ الشخص موقفاً محايداً من جميع الأطراف المنخرطة في مشكلة ما، ويبقى على مسافة واحدة منهم جميعاً، بحيث لا ينحاز لطرف دون آخر، وعلى الرغم من صحة المبدأ بصورة عامة جداً إلا أن (البعض) يسيء توظيفه في سياقات أخرى عديدة، فقد يكون الالتزام بالحياد في بعض الأحيان أسوأ موقف يمكن اتخاذه على الإطلاق.

كثيراً ما يكون سوْق نصيحة «لنقف على مسافة واحدة من الجميع» أشبه بدس السم في العسل أو زراعة الشوك في طريق الوصول للحل، فعلى سبيل المثال لو قام شاب لم يبلغ العشرين من عمره بالسرقة لأول مرة في حياته، وقام آخر تجاوز الأربعين عاماً بنفس السرقة وله سجل حافل بسرقات وتعديات سابقة، فهل يمكن التعامل مع الحالتين من نفس المسافة؟ هل يمكن النظر لصغار السن من الشباب قليلي الخبرة بنفس النظرة لعُتاة الإجرام ممن اعتادوا ترهيب الآمنين والتعدي على النفوس والممتلكات؟

بصفة شخصية، وفي سياق العلاقات الاجتماعية، لا أعتقد أنه يمكن التعامل مع الأصدقاء أو الزملاء أو حتى الأقارب طبقاً لمبدأ المسافة الواحدة، فبعض الأشخاص إن تعاملت معهم بوِد فقد يسيئون تفسير هذا الوِد مما يدفعهم للتدخل الشديد حتى في شؤونك الخاصة واقتحام خصوصيتك دون سابق إنذار، فالحكمة هنا تقتضي عدم التعامل مع الجميع من نفس المسافة، فلكل مقام مقال، وعلى المرء التعامل مع كل شخص على حدة؛ طبقاً لشخصيته وطبقاً للسياق الذي يجمع بينه وبين الطرف أو الأطراف الأخرى، وهو ما يتسق مع أن لكل شخص في المجتمع معاملة خاصة به يستحقها، فمعاملة الكريم تختلف عن معاملة اللئيم، فإن أحسنت معاملة اللئيم ولم تأخذ حذرك الكافي منه قد يضرك أو يتآمر عليك.

أما في سياق العلاقات بين الدول فمن الصعب على أي سياسي التعامل مع جميع الدول بمبدأ المسافة الواحدة، فهناك دول يتبنّى قادتها ثقافة الإرهاب ونقض المواثيق، لهذا من الطبيعي بل ومن الحكمة التعامل مع هذه الدول بحذر شديد، وقد تقوم دولة ما بالاعتداء السافر على أخرى، وعندها يعتبر الوقوف على الحياد في هذا الموقف مؤازرة للمعتدِي على المعتدَى عليه، فالحياد هنا يمكّن الدولة المعتدية من استمرارها في عدوانها، وهنا لا يمكن الزعم بأن الوقوف على مسافة واحدة من الجميع نوع من الحياد، بل هو ظلم بين واشتراك عمدي في العدوان ومساهمة صريحة في إنجاحه.

يتكرر الأمر نفسه في بيئة العمل الإداري حيث لا يمكن التعامل بحياد مع موظف مجتهد ومثابر، أو التعامل معه بنفس طريقة التعامل مع موظف خامل مهمل، فالحياد هنا ظلم للمخلص المجتهد ومكافأة للمهمل، ومن المؤكد أن تطبيق مبدأ المسافة الواحدة بين الجميع دون الأخذ في الاعتبار ظروف كل حالة على حدة سيؤدي إلى ترسيخ ثقافة عدم الولاء في أي منشأة، وسيسهم في تعميق الشعور بالظلم، ولذلك فإن مبدأ المسافة الواحدة له مسوغاته وظروفه، وإن تمّت إساءة تطبيقه فقد ينتهي الحال إلى ضياع الحقوق، فما يصح أن نتبعه في سياق قد لا يصح أن نتبعه في سياق آخر.