في ستينيات القرن العشرين، يوم أن كانت الحرب الباردة في أوجها بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، قررت هوليوود، من باب إغاظة الروس، تحويل رواية «دكتور زيفاغو» للكاتب الروسي النوبلي المنشق بوريس باسترناك (1890 ــ 1960)، إلى فيلم سينمائي ملحمي، فوقع الاختيار على المخرج البريطاني القدير ديفيد لين (1908 ــ 1991)، لإخراج العمل الذي قام الكاتب المسرحي البريطاني روبرت بولت، بوضع سيناريو تاريخي/ عاطفي/ أدبي له، مع مزج الواقع بالخيال.
تدور أحداث الفيلم حول شخصية الطبيب الشاعر دكتور يوري زيفاغو، الشاب الوسيم اللطيف المكافح المتزوج من «تونيا» ابنة العائلة التي ربته (قامت بدورها جيرالدين شابلن)، والذي ينساق وراء نداء قلبه تجاه الفتاة «لارا أنتيبوفا»، المتزوجة من ناشط سياسي (قامت بدورها جولي كريستي)، متحملاً كل الصعاب في زمن التحولات السياسية العنيفة إبان الحرب العالمية الأولى، والثورة البلشفية الدموية، والحرب الأهلية اللاحقة، وما نجم عنها من جوع وتشرد وقسوة وعنف وإعدامات وتأميمات للممتلكات الخاصة، وسط ظروف مناخية بالغة الصعوبة.
اختلف صناع الفيلم حول الممثل الأقدر على أداء دور البطل، أي تجسيد شخصية الدكتور «زيفاغو»، وحول الممثلة الأجدر بأداء دور بطلة الفيلم، أي حبيبته «لارا»، حيث تم تداول اسمي النجم البريطاني بيتر أوتول، والنجم الأمريكي بول نيومان كبطل، وجين فوندا أو صوفيا لورين كبطلة للفيلم، خصوصاً أن زوج الأخيرة المنتج الإيطالي «كارلو بونتي»، كان مشاركاً في إنتاج الفيلم بالتعاون مع شركة «متروغولدن ماير» الأمريكية. لكن ما حدث هو إصرار المخرج ديفيد لين وتحمسه لمنح دور البطل، للنجم المصري العالمي عمر الشريف، الذي كان قد عمل معه عام 1962 في فيلم «لورانس العرب»، ومنح دور البطلة للنجمة البريطانية «جولي كريستي»، التي بدا أن المخرج مبهور ومقتنع بها، على الرغم من أنها كانت وقتذاك جديدة على الساحة الفنية.
الخطوة التالية، تمثلت في البحث عن مكان مناسب لتصوير مشاهد الفيلم، بعد أن رفضت موسكو تصويره في المكان الأصلي للأحداث بالاتحاد السوفييتي، بدعوى أن العمل يستند إلى رواية كتبها أديب منشق، ناهيك عن أنه عمل دعائي للغرب. وهنا أيضاً تباينت الآراء بين من اقترح التصوير في يوغسلافيا، وبين من اقترح التصوير في إسبانيا. وفي نهاية المطاف، تم استبعاد الخيار اليوغسلافي، بسبب البرودة الشديدة في منطقة البلقان، وصعوبة العثور على مجاميع بشرية كثيفة للعمل ككومبارس في مشاهد الحروب والقتال، ووقع الخيار على إسبانيا.
وهكذا، بدأ التصوير في ديسمبر 1964، واستمر لمدة عام كامل، وسط تزايد تكاليف الفيلم، لأن العملية استدعت أن يقوم المخرج بتحويل بلدة «سوريا» الإسبانية، إلى مكان يحاكي منطقة جبال الأورال الروسية، وتحويل حي كانياس بضواحي صحراء مدريد، إلى أحد ميادين موسكو، بمتاجرها وطرقاتها وترامها وقصرها المعروف بالكرملين، بل وإنشاء شارعين يشبهان شوارع موسكو في عام 1922.
وبطبيعة الحال، كان الجهد الذي بذله المخرج ديفيد لين، مضنياً وشاقاً، خصوصاً أنه عرف في أعماله بالاهتمام بأدق التفاصيل، بل كان جهده خارقاً، لأن الزمن الذي أخرج فيه هذه التحفة الفنية، كان زمن ديكتاتور إسبانيا فرانسيسكو فرانكو، أي زمن تقييد حريات الحركة والتعبير. غير أن جهوده لم تذهب سدى، وتم تقديرها بأفضل ما يكون، إذ حصد الفيلم 5 جوائز أوسكار في دورة 38: أفضل سيناريو، أفضل موسيقى تصويرية (للموسيقار الفرنسي موريس غار)، أفضل تصوير سينمائي، أفضل تصميم أزياء، وأفضل تصميم إنتاج.
وأخيراً، يعد فيلم «دكتور زيفاغو» الطويل (3 ساعات)، والذي قطعت شخصياً نحو 7 كيلومترات مشياً على الأقدام من مدينة الخبر إلى مطار الظهران لمشاهدته، واحداً من أشهر الأعمال الجميلة الخالدة في تاريخ السينما العالمية، حيث احتل الرقم 39 في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما العالمية، واحتل المرتبة 27 في قائمة أفضل الأفلام البريطانية، كما أنه صنف ضمن أعلى 10 أفلام تحقيقاً للإيرادات، لأن الملايين حول العالم توافدوا على دور العرض لمشاهدته.
التعليقات