لم أتمالك نفسي كثيراً خلال متابعتي لتصريحات الرئيس الأمريكي في الكونجرس قبل أيام، حين بدا في غاية الانزعاج وكانت كلماته تقطر حزناً وكمداً على ضحايا الحرب في غزة من الفلسطينيين، هذه الحرب التي خلّفت عشرات الآلاف من القتلى الأبرياء، إضافة إلى هدم منازلهم حيث أصبحوا يعيشون في مخيمات داخل وطنهم بلا ماء ولا غذاء أو حتى دواء، كانت دموعي تنساب بغزارة وأنا أتابع قراءة تلك التصريحات بالغة الإنسانية والتعاطف مع مأساة الفلسطينيين ممن ذهبوا ضحية الحماقات الإسرائيلية!

من المؤكد أن دموع التماسيح الأمريكية التي تنهمر الآن لم تنهمر في اللحظات الحرجة التي واكبت اندلاع الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، فقد مرت الآن قرابة الشهور الخمسة على واحدة من أشد الحروب دموية خلال الآونة الأخيرة والتي قتل فيها الألوف من المدنيين وغالبيتهم من الأطفال والنساء، أما من تبقى من سكان القطاع فقد وقعوا فريسة للجوع والعطش، وخلال تلك الشهور عانوا أشد المعاناة من تهجير قسري وتخاذل دولي وإزهاق للأرواح وتدمير للممتلكات، ورغم كل ذلك لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً، ولم تفكر حتى في التحرك بجدية لإيقاف حمامات الدم التي تسببت فيها مجازر إسرائيل، متناسية أن السلاح والذخيرة اللذين تستخدمهما إسرائيل في قتل الفلسطينيين مسجل عليهما «Made in USA».

لا شك أن ما أثار سخريتي من تصريحات الرئيس الأمريكي -الذي يقاتل الآن من أجل الفوز بفترة رئاسية ثانية- هو مدى تناقض تصريحاته مع أفعاله، وتعمد ادعائه بما يناقض سلوكياته، ونذكر جميعاً مدى الحزن الذي غلّف البيت الأبيض عندما تعرضت إحدى القواعد الأمريكية للقصف من قبل بعض المليشيات المسلحة قبل شهرين تقريباً، وقد قتل وقتذاك ثلاثة جنود أمريكيين وأصيب 35 آخرون، لقد كان يوماً حزيناً في حياة بايدن السياسية، الذي اهتم بقتلى ومصابي بلده متجاهلاً الكارثة الإنسانية المروعة في غزة وقتذاك، وكأن دماء الأمريكيين فقط هي التي تستحق الرثاء والبكاء، أما أرواح ودماء الفلسطينيين فلا ثمن لها.

غير أن الرئيس الأمريكي ذكر في خطابه بالكونجرس مؤخراً أن القتلى في غزة عددهم بالآلاف، فلِمَ يذكر ذلك تحديداً في الوقت الرهن؟ وحتى لو كان عدد القتلى بالمئات فحسب فهل هذا مسوغ لترك يد إسرائيل لتستمر في حصد أرواح الفلسطينيين بلا حساب؟ يعلم بايدن ربما أكثر من غيره أن سقوط قتيل مدني واحد كضحية للحرب هو أمر مؤلم للغاية، فهي أرواح بريئة لم تقترف إثماً ولم ترتكب جريمة، فكم عدد الضحايا الذين تنتظرهم الولايات المتحدة لتتحرك بشكل إيجابي لإيقاف جرائم الحرب الإسرائيلية؟

لا شك أن التناقض الأمريكي الذي تنتهجه الولايات المتحدة أساء لها كثيراً أمام العالم برمته، فإن كان البيت الأبيض يبغض السلوكيات الإسرائيلية فلمَ يوفر لها الدعم السياسي في مجلس الأمن إذن؟ ولمَ تصر الولايات المتحدة على إجهاض أي قرارات دولية تدين الممارسات الإسرائيلية، ومنذ أيام قليلة صوّت مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار يدعو لوقف إطلاق النار في السودان خلال شهر رمضان احتراماً للشهر الفضيل، أما بقية المشاريع المماثلة المتعلقة بغزة فيتم رفضها حتى بدون تفكير، على الرغم من تفاقم الأوضاع الإنسانية بشكل كبير جداً في غزة على نحو ينذر بحدوث العديد من الكوارث.

في غزة لم ينج أحد، فمن قتل تشردت أسرته وتهدم منزلها وتيتم أطفالها، ومن بقي فهو يصارع الجوع والعطش ونقص الدواء والرعاية بسبب الحصار الإسرائيلي الظالم المفروض على القطاع، فإلى متى سيتحمل الفلسطينيون كل ذلك حتى تتم التسويات السياسية ويتم فتح المعابر أو بناء الموانئ التي تقترحها الولايات المتحدة، وكيف تتأسف الولايات المتحدة أو تبدي التعاطف تجاه الأبرياء الذين يتم قتلهم في الوقت الذي تمنح فيه الضوء الأخضر للحكومة الإسرائيلية لتستمر في سياسات وممارسات القصف والقتل والحصار والتجويع للشعب الفلسطيني الأعزل.

في اعتقادي أن دموع السياسيين في الإدارة الأمريكية ليست سوى دموع لاستعطاف الجالية المسلمة في الولايات المتحدة، ولاستعطاف الكثير من الأمريكيين المناوئين لسياسة البيت الأبيض بسبب دعمه اللامحدود لإسرائيل، فيوماً بعد يوم يزداد عدد الأمريكيين الرافضين لسياسة بلدهم الداعمة لسياسة إسرائيل الهمجية، وكلما مرت الأيام كلما ازداد التعاطف مع الفلسطينيين وكره سياسة الانحياز الأعمى للجانب الإسرائيلي، وحتى لا تفقد الإدارة الأمريكية الحالية كتلتها الانتخابية الداعمة مضطرة للتظاهر بالتباكي والتعاطف مع الفلسطينيين وتأييد موقفهم، فهذه الدموع ليست حقيقية، إنها مجرد دموع تفرضها الانتخابات الرئاسية القادمة.