في نهاية الشهر الجاري، تجرى الانتخابات البلدية في تركيا. وهي تقام مرة كل خمس سنوات. وعلى الرغم من طابعها المحلي كونها تهدف إلى انتخاب مجالس مناطقية تبدأ من القرية الصغيرة إلى المدينة الكبيرة ويتميز عملها الأساسي بما يتعلق بالخدمات الأساسية والبنى التحتية، وعلى الرغم من أن البعد العائلي والعشائري يلعب دوراً مهماً في اختيار الناخب للمرشحين، غير أن الأمر في تركيا اتخذ منذ فترة طويلة بعداً إضافياً سياسياً.
وهذا ليس جديداً على كل الانتخابات البلدية في العالم كما النقابية مثل نقابات الأطباء والمهندسين ولا سيما المحامين. لكن كلما احتدم الصراع السياسي بين القوى المتنافسة كانت الانتخابات البلدية تكتسب أبعاداً تتعدى كنهها الأصلي.
لا تكون الانتخابات البلدية عاملاً حاسماً في إعادة رسم الخريطة السياسية، لكنها غالباً ما تكون مؤشراً على بعض ملامح المرحلة التالية. على سبيل المثال كانت انتخابات تركيا البلدية عام 1994 مؤشراً على ما تلاها. ففي تلك الانتخابات فاز مرشحا حزب الرفاه الإسلامي الذي كان يرأسه نجم الدين إربكان برئاسة أهم مدينتين هما إسطنبول(رجب طيب أردوغان) وأنقرة (مليح غوكتشيك). وفي العام التالي فاز حزب الرفاه بالمرتبة الأولى في الانتخابات النيابية بل تمكن إربكان، بالتحالف مع «حزب الطريق المستقيم» بزعامة طانسو تشيللر، من أن يشكل أول حكومة برئاسة إسلامية في تاريخ تركيا الحديث.
ومنذ ذلك الوقت دارت الدوائر إلى أن وصل حزب العدالة والتنمية، وريث الرفاه، في العام 2002 إلى الفوز بغالبية مقاعد البرلمان وتشكيل حكومة بمفرده. ومنذ ذلك العام فاز حزب العدالة والتنمية بكل الانتخابات النيابية والبلدية والرئاسية حتى الآن.
وحدها انتخابات العام 2019 البلدية خرقت هذه اللوحة حيث تمكن مرشحا حزب الشعب الجمهوري المعارض والمعارضة، أكرم إمام أوغلو ومنصور ياواش من إسقاط مرشحي العدالة والتنمية على التوالي في رئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة. وكانت هذه مفاجأة ضخمة لم يكن يتوقعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
فأردوغان كان يرى أن من يحكم إسطنبول يحكم تركيا. ليس ذلك فحسب بل فاز إمام أوغلو على مرشح العدالة والتنمية بن علي يلديريم بفارق قارب ال 900 ألف صوت وهو فارق كبير.
هذه النتيجة أشعرت أردوغان وحزبه بالخطر المحدق بزعامته. لذلك كانت معركة الرئاسة لعام 2023 بينه وبين مرشح المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو قاسية، وفاز فيها أردوغان بصعوبة، ولولا بعض أخطاء وخلافات المعارضة لكان فاز أوغلو.
اليوم تتنافس القوى السياسية من جديد على زعامات البلديات وأعضاء مجالسها البلدية. ومع أن الانتخابات الرئاسية، وهي الأهم نظراً لأن رئاسة الجمهورية تختزن وفق الدستور معظم الصلاحيات بعدما حوّل أردوغان في استفتاء، النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، ستجري بعد أربع سنوات ونيف وهذه مدة طويلة جداً، غير أن أردوغان ينظر إلى الانتخابات البلدية من أكثر من زاوية.
أولاً، يريد أردوغان أن «يستعيد» بلدية إسطنبول من المعارضة لأنه يعتبرها رمزاً شخصياً له عندما فاز كإسلامي برئاستها عام 1994. لذا تحتل المدينة عنده مكانة معنوية كبيرة.
ثانياً، ينظر أردوغان إلى رئيس البلدية الحالي ومرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو على أنه المنافس الأخطر على أي مرشح من العدالة والتنمية لرئاسة الجمهورية عام 2028. وكاد إمام أوغلو أن يكون هو منافس أردوغان في انتخابات رئاسة الجمهورية في العام الماضي. لكن القضاء التركي «نبش» ملفاً قضائياً ضد أوغلو حال دون المخاطرة بترشيحه.
ثالثاً، وهذا هو الأهم وهو أن الرئيس التركي ينظر إلى رئاسة البلدية كمعيار لاتخاذ خطواته المقبلة. فأردوغان يرى أن كسر إمام أوغلو وفوز مرشح العدالة والتنمية مراد قوروم سوف يعطي دفعاً معنوياً كبيراً له لكي يعمل على إعداد دستور جديد قد يكون تعديل البند الخاص بالترشح لرئاسة الجمهورية أهمها.
فالرئيس التركي فاز في السنة الماضية بالرئاسة للمرة الثانية، وهو الحد الذي يسمح به الدستور. فإذا فاز قوروم سيتشجع أردوغان ويطرح تعديلاً دستورياً يتيح له الترشح للمرة الثالثة. من هنا يسعى أردوغان بكل ما أوتي من سلطة وإمكانات حكومية لكي يفوز قوروم. لذلك فإن معركة إسطنبول عملياً ستكون معركة رئاسة الجمهورية وستكون «أم المعارك» بين إمام أوغلو وأردوغان عملياً. وكذلك الأمر بالنسبة لبلدية أنقرة التي يسعى أردوغان لانتزاعها من جديد من يد مرشح حزب الشعب الجمهوري.
في الإطار العام، يتوقع أن يأتي حزب العدالة والتنمية في المرتبة الأولى لتبقى المعارك على رئاسة البلديات الكبرى. لكن ما يميز الانتخابات المقبلة عن انتخابات 2019 هو أنه باستثناء التحالف بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، فإن تحالف الجمهور الحاكم يفتقد «حزب الرفاه من جديد» الذي خرج منه، كما أن المعارضة تخوض الانتخابات من دون أي تحالفات ولكل حزب مرشحوه المستقلون. حتى الجانب الكردي يخوض الانتخابات منفرداً بعد النتائج المخيبة الرئاسية والنيابية في العام الماضي والتي يرى أن حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض لم يف بتعهداته التحالفية. وهذا بالتأكيد يضعف موقع كل الأحزاب ومرشحيها.
وإذ يتوقع أن تكون النتائج نسخة مشابهة للانتخابات النيابية فإن العين تبقى أولاً وأخيراً على المدن الثلاث الكبرى إسطنبول وأنقرة وحتى أزمير، قلعة العلمانية، التي يراهن حزب العدالة والتنمية على إحداث مفاجأة فيها.
التعليقات