بظلّه الممتد، يلقي جثمان نافالني الكثير من العتمة على المشهد الانتخابي في روسيا. يبدو ذلك واضحاً في كتابات الأدباء المهاجرين الروس، الذين صاروا بعد الحرب الرئة الثقافية لروسيا. فحين تقرأ سطورهم، تلسعك مراراً، مثل جليد فوق كأس من الفودكا الرائقة، العبارات الكاشفة لوجع لروسيا العظيمة، الذي لا ينتهي.
لا شك في أنك قرأت معي عن "فالوديا" (الرمز الأدبي الروسي الكلاسيكي)، ذلك الإنسان الروسي، المتواضع المحبب، الشامخ والبائس.
لكن تجربة نافالني في سجن "الغولاغ" خلف القطب الشمالي، علّمت فالوديا كم هي الحقيقة مكلفة وقاتلة في روسيا. "لذلك تراه مثقلاً يجرجر أقدامه على بلاط محطات القطار، ليذهب تارةً للحرب، وتارةً للانتخابات. لعلّه يبقى قادراً على التنفس".
وإذ يُطبق باب الوطن من جديد على فالوديا، يطَوّح بلسانه وقلبه إلى ما وراء الحدود! لتروي النخب الروسية المهاجرة (مليون ومئتي مواطن) بعناد مؤلم، وسردية ناصعة، القصة المذهلة لصعود بوتين إلى السلطة وصولاً لمحنة الحرب و"الانتخابات".
تكتشف في هذا الأدب الروسي المهاجر، كيف لا تزال روح فالوديا "حادّة ورقيقة كشفرة السيف" رغم التفاف الحبل الأمبراطوري حول عنقه لأكثر من ألف عام. لنقرأ معاً: "يوم الانتخابات رمى فالوديا المتبصر الصامت، ورقته، ومضى. ثم ارتدّ، وهو المهووس الملتوي والخلاسي، ليلقي نظرة مُرّة نحو الكرملين، ويركض متأبطاً زجاجته نحو محطة المترو حيث من يحب".
بغض النظر عن التمجيد الفاسق، والخنوع المازوشي، الذي يطفو في المحافل الرسمية، يتنبأ هذا الأدب المهاجر بالمأساة المحيقة. ويرسم، سيرة نافالني كفاح، في تحليله السريري البارع للفساد والاستبداد. ورغم ذلك يستمر "فالوديا " في قتاله للإفلات من قدر رسمه، بروح يائسة، فاديم بارانوف: "لا أحد يفلت من مصيره، ومصير الروس أن يحكمهم أحفاد إيفان الرهيب".
أمام إلحاح الحاجة لتحديث روسيا علّها تتجاوز قدرها كمجرد مصدّر للخامات، ولعلّها تصير دولة حديثة، فشلت الأوليغارشيا الروسية، ومضت لتطلق حربها ضدّ الأشقاء الأوكرانيين، وضدّ "الحضارة الأوروبية الفاسدة". لم تكن هذه حرباً من اجل الأرض، فالأرض هي آخر ما يلزم روسيا، ولا لأجل اللغة، بل من أجل ذات الهواجس الإمبراطورية!
في "عرس" الانتخابات، تجلّت على الجدران والشاشات، الأسطورة القديمة لتوحّد روسيا بالزعيم المنقذ الفريد. لتصير النرجسية كما يقول إريك فروم "ضماناً لعصبية مبهمة" عبر تكرار مقولة "نحن لسنا مثلهم"، (لسنا أوروبيين).
لو أنّ بوتين قدّم للعالم نموذجاً بديلاً للنموذج الغربي المتغطرس، والمتعسف، لكان حمله العالم على الأكتاف. بل وكما تشهد حروب بوتين من الشيشان إلى سوريا والقرم ثم في أوكرانيا، يفتقر نموذجه لأي من خصائص البديل الحضاري، حتى بالنسبة للإنسان الروسي، ولا ينبئ هذا النموذج إلاّ بظلم أشدّ مرارة. فمثل نتنياهو، يلفق بوتين الخوف والدفاع عن النفس، ذريعة للاستبداد والعدوان والحرب. وكما قالت مدام بومبادور، عشيقة لويس الخامس عشر: "بعدنا، فليأتِ الطوفان".
يبدو واضحاً أنّ بوتين، رغم براعته التكتيكية، غير قادر على تحديد استراتيجية حقيقية لحربه المبهمة، التي تستنفد الموارد السياسية والاقتصادية والديموغرافية والنفسية للبلاد. فبعد أن بدأت حربه ضدّ أوكرانيا "عمليةً خاصةً"، ها هي تصير "حرباً" لإعادة بناء النظام العالمي.
أما بالنسبة لـ"فالوديا"، فتتحول المؤسسات الروسية ظلاً للحاكم، لتصبح مثل ماتروشكا متراكبة من "البوتينات" المصغّرة (الدمية الروسية المتراكبة). وبدلاً من تعزيزها، تتآكل المؤسسات، وتتحرّر البيروقراطية النَهّابَة من كل القيود، وتصبح كياناً يستعمر الدولة ويحدّد العدو بحسب مزاجه، ويستخدم العنف وفقاً لمعاييره.
لقد أعاد بوتين بناء البيروقراطية العليا على ضوء عسكرة الإدارة وهواجس الأمن، بحيث لم يبق في الكرملين صاحب رأي قد يُسمعه ما لا يرضيه. بل يمتد هذا الانحدار إلى أنظمة التعليم والعدالة، والاقتصاد. وحتى روايات التاريخ في المدارس، تصير قصاصات هجينة لتاريخ ايفان الرهيب، وستالين.
في تكرار للسرد الستاليني، يتردّد السؤال في المقاهي "رأس من سيسقط غداً؟"، ويتفشى الوباء إلى معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ويتهم أتباع "الفلسفة السيادية"، زملاءهم بـ"الخضوع للغرب"، لنسمع من جديد تعابير من قبيل، "الخونة" و"التفاح الفاسد الذي يفسد الصندوق".
ويؤكّد لافروف في كانون الثاني (يناير) 2024 أنّ "العملية الخاصة وحّدت مجتمعنا بطريقة غير مسبوقة، وسهّلت تطهيره من الأشخاص الذين لم يشعروا بأنّهم جزء من كونهم روسيين، ومن التاريخ الروسي، والثقافة الروسية".
ما زلنا نذكر، بكثير من الذهول، ذلك الفشل في الأيام الأولى للحرب. فحين شاهدنا في صور الأقمار الاصطناعية، في شباط (فبراير) 2022، أرتال المدرعات الروسية على امتداد 57 كيلومتراً من حدود بيلاروسيا تتزاحم نحو كييف، بدا لنا جميعاً، أنّ قدر كييف صار محسوماً. فلقد فاق تعداد القوات الروسية في هذه القافلة، تعداد الجيش الأوكراني بأسره.
لكن، سرعان ما انسحبت القوات الروسية! وبحسب تقارير روسية، كان السبب نقص التموين، ووفق المصادر الغربية، فات قيادة أكبر دولة مصدّرة للقمح، وأكبر دولة منتجة للنفط، تأمين التموين من الغذاء والوقود لقواتها. كانت تلك هزيمة موصوفة، لم يُحاسب عليها أحد في الكرملين.
أمام هذا الضعف، صار واضحاً انّه لم يعد لروسيا الاّ تفوقها الديموغرافي. ولأنّ بوتين يعتبر هذه الحرب، حرباً وجودية له، ولأنّه لا يمكن بالتالي أن يستسلم لركودة حرب الخنادق، دفع أرتالاً متلاحقة من الأجساد البشرية في أتون الحرب.
صارت هذه الاستراتيجية مصدر قلق كبير لكل أوروبا. فمن هذا المنطق، لا ضمانة أن يقف بوتين على أعتاب حلف "ناتو"، بل سيذهب نحو بولونيا ورومانيا. ثم هل ينزلق عندها لخيار شمشوم، ولو بأضعف أشكاله؟
لذلك، بُنيت الاستراتيجية الغربية على دعم الأوكرانيين بكل ما هو ممكن لقوات أوكرانيا أن تستوعبه بمفردها، من مهارات وقدرات على الصيانة. لذلك، يدرك فالوديا أنّ هذه الحرب قد تطول لسنوات.
وأنا أنهي مقالتي، صُدمت من جديد بفاجعة الإرهاب في المركز الموسيقي بموسكو. فبعد نافالني واستفحال الأجهزة السلطوية، تتخذ الحياة السياسية الداخلية الروسية منحى أكثر قتامة. ولن يقتصر الأمر على التدابير البوليسية، بل سنشاهد ارتال القوميين المتعصبين الروس ينفلتون ضدّ كل من "ليس منا"، وقبل كل شيء، ضدّ مواطنيهم الروس.
فيا لوجعك يا فالوديا! ويا لسبحان الله كيف يتخادم الظلم والاستبداد مع الإرهاب!.
التعليقات