انتهى المؤتمر الدولي للمذاهب والطوائف الإسلامية في مكة المكرمة برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، على مدى يومي 7-8 من رمضان الحالي بصدور وثيقة مكة المكرمة، والتي وضعت ما يمكن اعتباره خارطة طريق لمستقبل العلاقات ما بين المذاهب والطوائف الإسلامية وتصويب العلاقات ما بين أتباع المذاهب والطوائف الإسلامية وتنقية أجوائها.
فكان المؤتمر عالمياً بامتياز نظراً لحجم الجهود التي قامت بها رابطة العالم الإسلامي والحوارات والنقاشات المكثفة التي خاضها العلماء والفقهاء المشاركون بجدية وإخلاص ومتابعة معالي أمين عام الرابطة، والتي تمخضت عن وثيقة مكة المكرمة.
لا أحد ينكر حجم المأزق والتوتر الذي وصلته العلاقات بين بعض الدول نتيجة للاحتقان الطائفي والمذهبي التاريخي والذي مر بتيارات صعود وهبوط عبر التاريخ، فجّرته وأشعلت جذوته مؤخراً أطراف دولية خارجية بالإضافة إلى ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والتي أدخلت العامة والبسطاء في أتون الصراع المذهبي والطائفي، مما وسع دائرة السجالات المذهبية والطائفية وعمق ارتداداتها وخروجها في كثير من الأحيان عن السياق بل وتوظيفها لمصالح سياسية واقتصادية لدول وجماعات، حتى تعذر سماع صوت العقلاء والحكماء من فقهاء وعلماء المذاهب والطوائف وسط ضجيج العامة وتداعي العنصريات واستدعاء القبائليات والعشائريات والمناطقيات.
من المؤسف والمؤلم أن تلك الأجواء والمناخات الطائفية المشحونة خلال العقود الثلاثة الماضية تم استثمارها والاستثمار فيها من بعض الأطراف الدولية النافذة وأجهزة استخباراتها، وتوظيفها في إزهاق الأرواح البريئة، خدمة لمصالح تلك الدول في توسيع نفوذها وهيمنتها على الدول المنهكة بالنشاطات الإرهابية وتحويلها إلى دول فاشلة تنتشر فيها الجماعات المسلحة وتهريب المخدرات وتجارة البشر وتهجير أهلها إلى دول العالم وتحويل آلاف الأسر والعائلات إلى طوابير الفقر، واستغلال تلك الظروف في صناعة المرتزقة لتدمير دول أخرى، كل هذا يتم عن طريق أجهزة استخبارات من خلال استغلال خلافات طائفية ومذهبية قد تكون بسيطة وتحت السيطرة لو تمّت إدارتها بطريقة عقلانية من حكماء وعقلاء وعلماء الأمة والمؤسسات الإعلامية المحترمة. فعلى سبيل المثال، الجريمة التي تم ارتكابها في موسكو منذ أيام، وتم الادعاء بأن وراءها ما يسمى «داعش» والذي هو ابتكار استخباراتي غربي، تم توظيفه كمقاول دموي يعمل لصالح الغرب وإسرائيل تحت غطاء «الخلافات المذهبية والطائفية»، هذا الابتكار الغربي والذي ابتكرته وأنتجته وموّلته استخبارات تلك الدول الإمبريالية باعتراف قادتها ومسؤوليها، بتواطؤ واضح من شبكات الإعلام لخدمة هذا المشروع والترويج له بغرض توسيع نفوذ وهيمنة الدول الإمبريالية الحاضنة لهذه المنظمات، بما يحقق بقاء واستمرار هيمنتها ونفوذها.
من هنا جاءت أهمية وثيقة بناء الجسور بين المذاهب والطوائف الإسلامية والتي أمضى عليها المؤتمرون في مكة المكرمة، في سحب الورقة المذهبية والطائفية من يد الدول الاستعمارية الإمبريالية وأجهزة استخباراتها، وإحراق كل الأوراق التي في أيديهم، مثلما أن لهذا المؤتمر أهمية بالغة في موضوعه ونقاشاته ولقاءات علمائه وفقهائه من مختلف المذاهب والطوائف، ومثلما أن لمكان انعقاده وتوقيت انعقاده من قدسية لدى أتباع هذه المذاهب والطوائف وبين كل المسلمين، حيث سينعقد هذا المؤتمر سنوياً لتعزيز البنية التحتية في وضع مجمل ما توصل له المؤتمرون قيد المراجعة والتحديث والتصويب والمضي قدما في تطوير علاقات التعاون والشراكات الأخوية البينية.
إن تحقيق مخرجات مؤتمر مكة المكرمة وتطبيقها على الأرض كفيل بوقف المآسي التي تعاني منها الشعوب في بعض الدول الإسلامية والأقليات المسلمة في بعض دول العالم. فقد نجح المؤتمر بالخروج بنتائج يمكن البناء عليها في إدارة الكثير من الأزمات والتخطيط لعلاقات صحية طبيعية بين شتى المذاهب والطوائف الإسلامية، ولذلك أرى ضرورة أن يصار إلى التركيز على اللجنة التنسيقية بين المذاهب في تفعيل كل ما يمكن تفعيله من بنود الوثيقة وأهمها مع هذه المقترحات التي أتمنى أن ترى النور بوتيرة سريعة ودون حاجة لانتظار انعقاد المؤتمر القادم:
أولاً) لا بد من عقد شراكات إعلامية متعددة واستقطاب كفاءات بشرية مؤمنة بهذه الأهداف؛ وذلك للعمل على إيصال رسائل المؤتمر بطريقة واضحة وبسيطة وناعمة للبسطاء والعامة من خلال برامج جماهيرية وشعبية وذلك لتبريد التوترات والتشنجات بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، فالعامة هم من يدير المشهد مع توفر التواصل الاجتماعي وليس الفقهاء والعلماء وهؤلاء ربما هم «القاعدة الشعبية» للعلماء والفقهاء.
ثانياً) لا بد من ربط الاقتصاد بالحلول المقترحة لأي مشكلة. فالاقتصاد دائماً هو جزء من المشكلة، وهو بالتأكيد جزء أصيل من الحلول ومعالجة الكثير من الصعوبات والتحديات، بما فيها الخلافات المذهبية والطائفية، فلابد من استحضار البعد الاقتصادي ونحن نفكر ونناقش أي مشكلة، فالاقتصاد وقاية من الأمراض وهو بالتأكيد علاج للكثير من الأمراض بما فيها أمراض الخلافات المذهبية والطائفية.
ثالثاً) هناك حاجة ملحة لإيجاد وإطلاق منصة رقمية تكون بمثابة مرجعية فقهية تقوم عليها وعلى صناعة محتواها «اللجنة التنسيقية بين المذاهب الإسلامية» ورابطة العالم الإسلامي من المختصين المؤهلين المخلصين، وذلك لوضع وتأسيس البنية التحتية لفكر الاعتدال، وتدشين الطريق السريع من المعرفة والتفاهم بين المذاهب والطوائف والفرق الإسلامية ليصار إلى تشكيل رأي عام إسلامي ناضج واعٍ عصي على الاختراق ويكون قادراً على تحييد وتهميش الفكر المتطرف.
التعليقات