في كتاب "هكذا تعمل مؤسسة جوجل" يشرح مؤلفاه إيريك شميت وجوناثان روزنبيرج بإسهاب عن عمل "جوجل".. يقولان: "لم يكن الدافع لهذا السلوك إيصال رسالة "مؤسسية" ما، بل كان الدافع شعورهما أن جذب وتوظيف وقيادة صفوة المهندسين هي الطريقة الوحيدة لإنجاح مؤسسة "جوجل" وتحقيق كل طموحاتها العظيمة؛ فعندما يكون هناك مقارنة بالموظفين التقليديين في مجال تكنولوجيا المعلومات بالموهوبين العاملين في مؤسسة "جوجل"، سنجد أن موظفي "جوجل" نوع فريد ومختلف من العمالة: فهم غير مقيدين بمهام معينة، وبإمكانهم الوصول إلى كل معلومات المؤسسة وإمكاناتها الحوسبية والاستفادة منها، كما أن لديهم الأمن الوظيفي مرتفع جداً فلا يتعرضون للعقاب أو الإقالة إذا فشلت أي من مبادراتهم المحفوفة بالمخاطر، بل إنهم غير مقيدين بأي تعريفات وظيفية أو هياكل تنظيمية، ويتلقون التشجيع المطلوب لتطبيق أفكارهم الإبداعية، كما أنهم لا يصمتون إذا لم يعجبهم أمر ما في المؤسسة، يشعرون بالملل سريعاً، ويغيرون وظائفهم كثيراً!".
أما تفكيرهم فكان يتسم بتعدد الأبعاد، ويجمع بين العمق الفني والذكاء التجاري والذوق الإبداعي، وبعبارة أخرى: هم ليسوا موظفين تقليديين على الإطلاق، بل بشراً من نوع مختلف، نوع يمكن أن نسميه "المبدع الذكي"، وهم السر وراء نجاح "جوجل".
وعندما أسس سيرجي برين ولاري بيدج محرك البحث "جوجل" العام 1998 لم تكن لديهما أي خبرة عمل سابقة، لكنهما اعتبرا هذا الأمر بمثابة ميزة وليس عائقاً يحول دون تحقيقهما لما يريدان.
ومع اتساع مؤسستهما التي حملت اسم "جوجل"، وانتقالها من حرم جامعة "ستانفورد" إلى مستودع بمدينة "مينلو بارك"، ثم افتتاحهما مجموعة من المكاتب، عمل الثنائي برين وبيدج على إدارتها باتباع بعض المبادئ البسيطة.. أولها وأهمها التركيز على المُستخدِم، فكانا يريان أنهما إن قدما خدمة رائعة للعميل، فسيتمكنان من التفكير في الأمور المالية لاحقاً دون أي ضغوط، وإذا تمكنا من ابتكار وإدارة أفضل محرك بحث في العالم، فسيكونان قد حققا نجاحاً باهراً بالفعل!
كانت خطتهما لابتكار محرك البحث وكل الخدمات الأخرى الناجحة التي تقدمها "جوجل" بسيطة للغاية: توظيف أكبر عدد ممكن من مهندسي البرمجيات "الموهوبين"، وإفساح المجال لهم للإبداع بحرية، فكانت هذه المنهجية مناسبة لإدارة شركة وليدة في معامل جامعة ترى أن أهم شيء في المجال "الأكاديمي" هو العقل الذكي المبدع، ولكن في الوقت نفسه اتخذا مبدأ رأس المال البشري؛ بأن موظفيها يعنون لها كل شيء وأنهم أهم أصولها، وتبنوه فعلاً وقولاً عند إدارة مؤسستهما.
وهنا يعيدنا "المبدع الذكي" إلى قصة العالم الأميركي توماس آدامز عندما قدم مقترحاً لشركات الأغذية في منتصف القرن التاسع عشر، عبارة عن تصنيع منتج غذائي يقوم المستهلك بمضغه والتلذذ بطعمه أكبر وقت ممكن دون ابتلاعه ثم التخلص منه، اُستقبل اقتراحه بالاستهزاء قبل الرفض، لم تُثبط عزيمة "آدامز" وأدارها بذكاء حتى نفذ فكرته على نفقته الخاصة، فكان ذلك بداية ظهور الـ"علكة" في عالمنا، منتج مستديم وثروة طائلة!
مثل هذا المنتج كان إحدى الطفرات الابتكارية -ومثله الكثير- في حقبٍ وفترات سابقة من تاريخنا، ولأن زمننا المتسارع وثورتنا الصناعية الرابعة تحاصر أبواب ونوافذ "مستقبلنا"؛ فقد غدت الأفكار المبتكرة في عصرنا الحديث ضرورة "قصوى" لا مجرد ترف فكري، إذ أصبحت مهارات الابتكار محرك النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة الأول.
وعوداً إلى صاحبنا المبدع "توماس آدامز"، ذُكر عنه أنه فكر في تحويل تركيب "العلكة"، المستخرجة من صمغ الصنوبر إلى نوع من المطاط يصلح للاستخدام في صنع الألعاب ودمى الأطفال وعجلات الدراجات.. إلا أن تجاربه فيها لم تنجح، ولكن علكته الذكيّة "توتي فروتي" الشهيرة مازال يمضغها العالم!
ختاماً، يعوّل ويُنظر إلى المؤسسات التعليمية كونها مصانع قادرة على إنتاج "عقول جديدة مبدعة" أكثر تماشياً مع متطلبات هذا العصر، بفرض "ثقافة الابتكار" في مدارسها، جامعاتها، قاعاتها، وبين دفتي كتبها ومعاملها!
التعليقات