كان يمكن للوثيقة التي تُناقَش نسخة تلو نسخة بين القوى المسيحية الرئيسية في بكركي أن تنطلق من أي مكان جامع، أفضله إطلاقاً مجلس النواب، لولا أنّ رئيسه مستمتع بدور رأس حربة التعطيل ومصادرة كرسي بعبدا الماروني.
أمّا لماذا بكركي؟ فلأنها تبقى بتاريخها الملتصق بجوهر وجود لبنان ونشأة الكيان والاستقلال وتقديسها الحرية الموئلَ والملاذ في الملمّات، سواء للمسيحيين الذين يشعرون بقلق وجودي، أم لسائر اللبنانيين الذين يخشون اندثار الكيان وتغيير وجه لبنان، خصوصاً بفعل تداعيات النزوح الكارثية، أو تحت وطأة «الشيعية السياسية» المسلّحة المناقضة تعريفاً للميثاق ولدولة المواطنة المدنية.
واضح أنّ الوثيقة التي يُعمل على إخراجها بأدقّ التفاصيل والمفردات ليست مجرّد التقاء ظرفي لإمرار الأزمات الآنية الملحّة، وعلى رأسها استعصاء انتخاب رئيس للجمهورية يملأ الفراغ. فما يطمح إليه العاملون على الوثيقة بدأب منذ سنتين هو أن تشكّل قاعدة قناعات وثوابت ومرتكزاً لكلّ السياديين الحريصين على لبنان، ولمختلف المؤمنين بالنظام الديموقراطي وتداول السلطة تحت سقف الدستور.
لو أمكن تلخيص الوثيقة ونقاشاتها بكلمة لكانت: «الدولة». فهي الهدف النهائي في عقل الساعين بمضمونها منذ اليوم الأول في أروقة الفاتيكان، أو مع الدول الأساسية المهتمّة بلبنان. وهي «الدولة» العاديّة الطبيعية المكتملة الأركان. حدودها مرسّمة ومحكومة بالقرارات الدولية؛ جيشها لا يشاركه سلاح ميليشيا من هنا ولا معادلة ذهبية أو خشبية من هناك؛ وشعبها متنوع ومتعدد يعيش لامركزية موسّعة ضمن الوحدة كدول كثيرة في العالم اعتمدت توزيع التنمية حسب مساهمة السكان في الإنتاج والضرائب، وفي إطار التكافل العام.
رغم ذلك، فإن فلسفة الوثيقة لا تجعلها جسماً طائراً في الفضاء أو أفكاراً هابطة بالمظلات. تدرك الوقائع وتمارس «الصبر الدستوري» ضمن مسار ينتهي حتماً إلى قيام دولة القانون السيّدة بلا ألاعيب ممجوجة وتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان.
تُفهم مسارعة «التيار» إلى تظهير اجتماعات الوثيقة، وحاجة جبران باسيل السياسية إلى صورة في بكركي تعزّز وضعه التفاوضي الرئاسي مع «حزب الله»، مثلما يُفهم غياب «المردة» الموقت عن لمّ الشمل كونه حليف حزب هو في أساس الجدل والنقاش وعمق الخصام. لكن الطرفين قد لا يستطيعان الإفلات من إجماع سينضج بالتدريج ليضمّ كل الشركاء في مشروع استعادة الدولة من براثن اللادولة التي تسببت بالهجرة والإفلاس وفقدان الأجيال الشابة أمل بناء مستقبل في لبنان.
بكركي حاضنة الوثيقة، لكنّ الصرح عوّدنا أن ينطق باسم كل اللبنانيين: مجاهري الرأي، خافتي الصوت، كاظمي الغيط. لذلك، فإن رحابة الوثيقة ستستثني حُكماً رافضي العيش المتساوي تحت ظلّ القانون، ومنكري حق المواطنين في حياة سلام بعد خمسين عاماً من الآلام، والمصرّين على رفض سلطة القضاء المستقل لأن مشروعهم لا يبلغ أهدافه إلّا مع شريعة الغاب.
ومن هذا المنطلق يُفترض ألّا تكتفي الوثيقة المأمولة بوضع الأساسات، بل أن تصوغ برنامج عمل جبهوي مرحلي يشكّل مشروع نضال. هي خطى استعادة وطن كُتبت على اللبنانيين الأحرار... «ومَن كُتبت عليه خطىً مشاها».
- آخر تحديث :
التعليقات