وضعت الحضارة المعاصرة، بكل ثقة، بصمتها الإيجابية، وأوجدت أنماطاً جديدة للحياة، ووفرت الراحة والطمأنينة لمختلف سكان العالم. لكنها في المقابل، تسببت بحدوث كوارث بيئية لا تزال تتوالى فصولها تباعاً، ولعل أخطرها على الإطلاق أزمة المياه التي باتت تؤرق الدول، والحكومات، والمنظمات الدولية المعنية.
لقد أدى زحف العمران على الطبيعة إلى التأثير في مصادر المياه، كما أدى انتشار المخلفات الصناعية والمياه المهدرة إلى تلويث ما يوجد من مصادر مياه جوفية، وبحيرات، وأنهار جارية، حتى باتت المياه العذبة الصالحة للاستهلاك البشري شيئاً نادراً في الطبيعة. وخلال النصف الثاني من القرن الماضي، ارتفع المعدل العالمي لكمية المياه العذبة المستخرجة من مصادر المياه الجوفية والسطحية، بمقدار مرتين ونصف المرة. كما سجل الطلب على المياه لري المحاصيل زيادة بأكثر من الضعف، حيث يستهلك الري الزراعي نحو سبعة وستين في المئة من المياه المستخدمة كل عام.
ووفقاً للإحصاءات العالمية، فإن 60% من سكان العالم يتواجدون في مناطق تعاني نقصاً في موارد المياه العذبة، بسبب تجاوز معدل الطلب العالمي إجمالي العرض، ويرى الخبراء أنه من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة في ظل ما نشهده عالمياً، من تداعيات التغير المناخي التي تؤثر في أنماط سقوط الأمطار، وأماكن سقوطها، ما يتسبب بفترات أطول من الجفاف، وزيادة حدّة الفيضانات، إضافة إلى التلوث الذي يصيب المياه، بخاصة الجوفية، والتي تشكيل بديلاً نسبياً لشحّ الأمطار في العديد من البلدان الصحراوية.
لقد أصبح العالم يدرك تماماً، مدى خطورة التغيّر المناخي، وتداعياته، ولذلك اعتمدت الجمعية العمومية للأمم المتحدة خلال انعقادها الأخير في نيويورك، قراراً بإجماع دولي على إطلاق خطة عمل عالمية من أجل المياه على مدار 10 أعوام، تحت شعار «عقد من العمل الدولي: المياه لتنمية مستدامة». وتشمل الخطة تنفيذ برامج وأنشطة تهدف إلى التركيز بشكل أكبر على التنمية المستدامة، والإدارة المتكاملة لموارد المياه.
وتعتبر المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم معاناة بسبب غياب خطط التنمية، ما يؤدي إلى نقص نصيب الفرد من المياه، ويعود السبب في ذلك إلى انتشار الصحارى فيها على نطاق واسع، وفي المقابل، زيادة الكثافة السكانية بشكل كبير، وزحف الريف على المدن، وظهور المدن الضخمة في مختلف الدول العربية؛ ما أدى إلى زيادة استهلاك المياه أضعافاً مضاعفة.
وتعد دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول التي تعاني نقص المياه بسبب موقعها الجغرافي القريب من مدار السرطان، حيث تسقط أشعة الشمس بشكل شبه عمودي على الأرض، وتتسبب بالجفاف، وانتشار المناخ الصحراوي الذي يؤدي إلى تضاؤل معدل الهطول المطري الذي يصل في المتوسط إلى 100 مليمتر سنوياً، وهو معدل ضعيف للغاية، لا يسهم في تكوين مخزونات كبيرة من المياه الجوفية، أو في تفجيرالينابيع. لكن القيادة الرشيدة عملت على مواجهة تحدي الأمن المائي من خلال مبادرات رائدة في هذا القطاع حيث أصبحت دولة الإمارات، واستراتيجياتها متعددة الأوجه، نموذجاً يحتذى لتعزيز مصادر المياه في المناطق التي تعاني شحّاً مائياً. وقد تم في هذا الخصوص التوجه نحو تحلية المياه باعتبارها التكنولوجيا السائدة لجعل مياه البحر صالحة للشرب. وحالياً، تأتي معظم مياه الشرب من خلال سبعين محطة رئيسية للتحلية منتشرة في مختلف إمارات الدولة.
وقد أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة استراتيجية الأمن المائي 2036، والتي صيغت من منظور وطني لتغطية عناصر سلسلة إمدادات المياه كافة، في الدولة، للعشرين عاماً المقبلة، حيث تهدف إلى حرية الوصول المستدام والمستمر إلى كمياتٍ آمنة وكافية من المياه الصالحة للشرب، في ضوء الظروف العادية، وأثناء حالات الطوارئ واسعة النطاق. وفي إطار زيادة موارد المياه العذبة، فقد تم إقامة ثلاثة مشاريع لتحلية المياه، في أبوظبي ودبي وأم القيوين، وتصل سعتها إلى أربعمئة وعشرين مليون غالون يومياً، والتي سترفع قدرة تحلية المياه إلى ألف وخمسمئة وتسعين مليون غالون يومياً، وبما يؤدي إلى تعزيز الأمن المائي للدولة.
وتتجه الحكومة الرشيدة إلى إقامة مشاريع الربط المائي بين إمارات الدولة، وسوف تشمل مشاريع الربط المائي مختلف إمارات الدولة، بهدف تفادي الأزمات، ومواجهة أي نقص في المياه في المستقبل. ويوم الجمعة الماضي، أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، التزام دولة الإمارات العربية المتحدة بمواصلة السعي في التصدي لتحديات ندرة المياه. وأضاف أن الدولة ستظل بالتعاون مع شركائها، داعماً أساسياً لمواجهة هذا التحدي، وإيجاد حلول مستدامة تضمن توفر المياه العذبة للجميع، بخاصة الفئات الأكثر تضرراً، وأن التعاون الدولي في مجال المياه هو تعاون من أجل التنمية والسلام، والمستقبل الأفضل للأجيال المقبلة.
ولا شك في أن الفترة المقبلة ستشهد استثمارات ضخمة في شبكات ومشاريع المياه، من خلال الرؤية الشاملة المتمثلة في تحقيق استدامة المياه في المستقبل، وهناك جهود مستمرة لتطوير هذه الاستدامة، وبما يؤدي إلى استمرار النمو الاقتصادي، وصولاً إلى الغاية المنشودة المتمثلة في بلوغ أعلى درجات الرقي في السلم الحضاري بين الأمم في العالم.. حفظ الله الإمارات، وقيادتها الرشيدة.
التعليقات