خلال الخمسين عاماً الماضية، لم تبدُ السياسة الأمريكية متقلبة المزاج، مترددة في مواقفها، متعددة الأوجه، كما هي اليوم، أمريكا رونالد ريغان -على سبيل المثال- كانت ضد كل قوى الشر حينها (المعسكر الشرقي، الاتحاد السوفيتي، إيران، الفصائل الإرهابية؛ القاعدة، بعض المنظمات الفلسطينية المتطرفة، سوريا، ليبيا)، وحليفة لدول الاعتدال والسلام (السعودية، مصر، دول الخليج، الأردن، المغرب).
قواعد الاشتباك التي أدار بها الرئيس رونالد ريغان علاقاته مع المنطقة كانت صارمة جداً، ولا تسمح بالنيل من حلفاء بلاده، ولا تتيح للمتنمرين في العالم تجربة أسلحتهم ونفوذهم عليها، لقد احترمت الحلفاء كما يليق بهم، وقدمتهم على الأعداء، ولم تكن تتعامل معهم بوجهين ولا بطريقتين.
إذا كنا نتذكر؛ فقد كان الإقليم الشرق أوسطي بين الأعوام (1980 - 1990)، يموج بحروب عديدة، (سوفيتية أفغانية، عراقية إيرانية، حرب أهلية قاسية في لبنان، وانتفاضة فلسطينية عنيفة في الضفة)، ومع ذلك كان حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية يقيمون علاقة مميزة مع الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض تنسيقاً وإنجازاً، واستطاعوا من خلال ذلك التنسيق تفكيك الأزمات وإنهاء الحروب واحدة تلو الأخرى.
في أفغانستان، سقط الاحتلال السوفيتي 1990، الحرب العراقية الإيرانية انتهت 1988، في لبنان بدأت معالجات الحرب الأهلية باتفاق الطائف 1989، وفي القضية الفلسطينية اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بمنظمة التحرير كممثل للفلسطينيين بعد وساطة سعودية 1988، لتبدأ بعدها مسيرة الفلسطينيين نحو الدبلوماسية الدولية.
بقيت الولايات المتحدة الأمريكية (ريغن، بوش الأب، كلينتون، بوش الابن) تتعامل مع منطقة الشرق الأوسط بعقلية راشدة واعية للحتمية السياسية والاقتصادية والأمنية لها، وتفهم أن السماح بأي عبث فيها يعني تفجير العالم وانتهاء دورته الاقتصادية، إدارات تطفئ النيران ولا تذكيها، لِمَ لا.. فالشرق الأوسط هو أكثر مناطق العالم تأثيراً وتأثراً، ولذلك من المهم التعامل معه ومع حكامه، وشعوبه بحذر، وانفتاح وتفهم.
الرئيس الأسبق باراك أوباما كان أول المتخلين عن قواعد السياسة الأمريكية، واستدار بعيداً عن حلفاء بلاده، معلناً أن هذه المنطقة لم تعد أولوية، ومع أن السياسة الأمريكية في عهده ارتحلت بعيداً، إلا أن المصالح العميقة التي يزيد عمرها على ثمانية عقود، أبت أن تتحرك وبقيت تراوح مكانها، تنتظر إدارة واعية قادرة على الاستدارة نحو الشرق الأوسط بما يحفظ للحلفاء مكانتهم، ويحقق الاستقرار، ويعيد الحياة لتلك المصالح المتجذرة.
طريقة (لاعب السيرك) الذي يستخدم يداً واحدة في رمي كرات عالياً والتقاطها، ليست سياسة، بل مغامرة قد تقود المنطقة والعالم إلى هوة سحيقة، كما أن التوقف عن التلاعب والمؤامرات وتحريك (الصغار) -التي يفترض ألّا تمارسها الدول العظمى- هي الباب الوحيد للوصول إلى شرق أوسط مستقر يضمن مصالح الجميع.
المشهد الحالي في الإقليم يشبه إلى حد كبير الشرق الأوسط في عهد ريغان (حرب روسية في أوكرانيا، حروب أهلية في اليمن والسودان وسوريا وليبيا، اشتباكات مسلحة في الضفة وقطاع غزة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حرب أهلية -باردة- في لبنان)، لكن الفارق أن ريغن غير موجود، وتريد واشنطن أن تحل هذه القضايا الملتهبة التي تمس أمن المنطقة ومستقبل شعوبها بأنانية مفرطة.
على الإدارة في واشنطن أن تكون أكثر تواضعاً وقناعة أنها من دون حلفاء أمريكا الحقيقيين، ومن دون تنسيق وثقة بين أعضاء نادي المنطقة والأمريكان، فسيصبح من الصعوبة عليها تفكيك ألغامها وفخاخها، كما أن النظر إلى الحلفاء أو الأصدقاء على أنهم مجرد حالة طارئة على المشهد الأمريكي ويمكن التخلي عنهم بسهولة، لا يعني أبداً أن العودة من النافذة -كما يحاول الآن الرئيس الحالي بايدن- متاحة أو سهلة، إنه أمر لا يستقيم مع أنَفة السياسيين وطريقة التفكير في هذه المنطقة من العالم، وعلى بايدن -إذا أراد النجاح- العودة من الباب كما فعل روزفلت قبل ثمانين عاماً.
التعليقات