انتهت الانتخابات البلدية في تركيا لكن تداعياتها لم ولن تتوقف إلى فترة طويلة قد تمتد حتى الانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة في عام 2028.
لو أن حزب العدالة والتنمية ومعه حليفه حزب الحركة القومية قد فازا في الانتخابات البلدية لكانت السيطرة مطلقة لهما على البرلمان والبلديات، والأهم رئاسة الجمهورية التي فاز بها رجب طيب أردوغان في أيار/مايو الماضي. ولكانت المعارضة غرقت في أوحال الهزيمة وانكب كل واحد من أحزابها في لفلفة أو معالجة أسباب الخسارة مع استسلام مطلق للعدالة والتنمية الذي يطبق على تلابيب البلاد بكل انتخاباتها منذ عام 2002. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن العدالة والتنمية ولا إردوغان.
فاز حزب الشعب الجمهوري كما بات معلوماً في الانتخابات البلدية. أطبق وبفوارق كبيرة على البلديات الكبرى المهمة مثل اسطنبول وأنقرة وإزمير وأنتاليا وبورصة وأضنة وغيرها. بل وهذا الأهم أنه احتل المركز الأول في الانتخابات ب 37.5 في المئة ملقياً خلفه حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى، منذ تولي الأخير السلطة، بنسبة 35 في المئة.
ما عدا حزب الشعب الجمهوري وحزب «الرفاه من جديد» وحزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» الكردي فإن كل الأحزاب خرجت خاسرة من الانتخابات: حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المتحالفان وحزب «الجيد» المعارض.
ولعل أول التداعيات عصفت بالحزب «الجيد» الذي تراجعت أصواته من تسعة في المئة إلى 4 في المئة. وهو الحزب الذي يعتبر حديثاً في الحياة السياسية، وتأسس عام 2017. لكن زعيمته مرال آقشينير ليست حديثة العهد في السياسة بل بدأتها عام 1995 في «حزب الطريق المستقيم» نائبة عن اسطنبول، وفي العام التالي تولت للمرة الأولى منصباً وزارياً مهماً وهو وزارة الداخلية في حكومة زعيم حزب الرفاه الاسلامي نجم الدين أربكان المتحالف حينها مع «حزب الطريق المستقيم» بزعامة طانسو تشيللر.
وبعد سنوات انتقلت آقشينير إلى حزب الحركة القومية لتفوز عنه نائبة في اسطنبول ثلاث دورات إلى أن اختلفت مع زعيمه دولت باهتشلي فتركت الحزب بل أخرجت منه لتؤسس الحزب الجيد.
أهمية الحزب «الجيد» أنه مثّل الجناح المعارض لأردوغان في التيار القومي وأضعف الجناح الموالي الممثل بحزب الحركة القومية. ومع أن آقشينير دخلت في تحالفات واسعة مع المعارضة، ولا سيما حزب الشعب الجمهوري، لكنها اشتهرت بمواقفها المتذبذبة التي كانت تلحق الضرر بوحدة المعارضة وأهمها في انتخابات الرئاسة عام 2023 حيث لم يكن موقف حزبها متماسكاً خلف مرشح المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو فخسر على فارق بسيط قد تكون آقشينير تتحمل مسؤوليته.
في النهاية دخلت المعارضة الانتخابات البلدية الأخيرة مفككة. وهذا كشف ضعف الحزب «الجيد» الأمر الذي ألحق به هزيمة مريرة. وربما وجدت مرال آقشينير إحدى النساء النادرات في السياسة التركية (إضافة إلى الراحلة رهشان أجاويد وطانسو تشيللر) أن مسيرتها السياسية التي امتدت لثلاثين عاما قد انتهت بالهزيمة البلدية واختارت بالتالي ألا تترشح إلى المؤتمر الطارئ للحزب الذي دعت هي إليه في 27 نيسان/إبريل الجاري.
خروج آقشينير من الحياة السياسية يعني طي صفحة الحضور النسائي في الزعامة التركية وتركها بالكامل للذكور.
هنا صدرت أكثر من إشارة من جانب حزبي السلطة العدالة والتنمية والحركة القومية في اتجاه محاولة وراثة جمهور الحزب «الجيد» أو على الأقل تحبيذ تراجع آقشينير عن قرارها الانسحاب واستمرارها في زعامة الحزب. ذلك أن الحزب قد يكون أمام فرصة تجديد حيويته والوقوف إلى جانب حزب الشعب الجمهوري المعارض أو التفكك. وكل هذا سيظهر في انتخابات زعامة الحزب في مؤتمره المقبل.
أما هزيمة حزب الحركة القومية بزعامة باهتشلي وتراجعه أيضاً من عشر إلى 5 نقاط فيبدو أن تحكم باهتشلي بزعامته المستمرة منذ عام 1997 ستستمر، وليس من خوف في أن ينافسه أحد أو أن يدعو أحد من حزبه لمحاسبة المسؤول عن الهزيمة.
وهذا ينسحب أيضاً على الحزب الأكثر خسارة في الانتخابات وهو حزب العدالة والتنمية الذي يبدو أنه يقوم بمراجعة نقدية لتجربته وتحليل أسباب خسارته.
وتكشف الصحافة التركية يومياً بعضاً من كواليس المناقشات الداخلية في الحزب والكلام القاسي الذي قاله إردوغان خلالها. ولا يعرف بعد ما إذا كان أردوغان، السيد المطلق في الحزب، سيعيد النظر بالتشكيلات الحزبية علماً أنه كان المسؤول الأول عن اختيار شخصيات لخوض معارك الانتخابات البلدية لم تكن على قدر المسؤولية ولا أهلاً للمنافسة.
لكن تداعيات نتائج الانتخابات بدأت تترك أثرها على الأقل في سياسة تركيا تجاه إسرائيل حيث أصدرت وزارة التجارة التركية تعميماً بتقليص حجم التجارة ووقف تصدير 54 منتجاً إلى اسرائيل. والقرار كان نتيجة لقناعة لدى أردوغان بأن الناخب المتدين خذله في الانتخابات احتجاجاً على استمرار العلاقات التجارية مع إسرائيل. لكن القرار التركي يشير إلى أن الصادرات ستستأنف فور التوصل الى قرار وقف للنار في غزة كما أن الكثير من الصادرات لا يشمله قرار تقليص حجمها.
أما حزبا الشعب الجمهوري(37.5 في المئة) والرفاه من جديد (6.7 في المئة) فلا يزالان يعيشان «أفراح» انتصارهما وتقدمهما في الانتخابات البلدية على أمل أن يتواصل هذا التقدم في المرحلة المقبلة.
التعليقات