لم تكن إسرائيل يوماً في هذه الدرجة من العزلة الدولية. رئيس وزرائها المفترض بنيامين نتنياهو، يكاد يكون هارباً من وجه العدالة، ينتظر مذكرة اعتقال مثل عمر البشير حين كان رئيساً للسودان، كما يرفض قبول اتفاق هدنة، وتنتابه نوبة غضب كلما يُطلب منه الوقف الرسمي للحرب في غزة، والتي انتهت إلى حدّ كبير منذ شهر كانون الاول (ديسمبر) الماضي.

مثل أي طاغية في دولة مارقة، فإنّ بقاء نتنياهو في السلطة مرتبط بإستمرار الحرب وحتى بافتعال حروب أخرى إذا اقتضت الضرورة. أحد تشكيلات قواته العسكرية، كتيبة "نيتسح يهودا"، مهدّدة بالعقوبات بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان في الضفة الغربية. الأهم من ذلك، خرج الراعي الرئيسي للطاغية عن صمته المتواطئ. للمرّة الأولى يقول الرئيس الأميركي جو بايدن الأمور من دون مواربة، بعدما اتضح أنّ الاستقرار الإقليمي الذي ترعاه واشنطن أهم من استمرار المغامرات الانتقامية ضدّ حركة "حماس".

تنبّه الراعي الرسمي أخيراً إلى أنّ رئيس حكومة تأخذ شرعيتها من اليمين المتطرّف لا تؤتمن على اقتناء قنابل تزن 907 كيلوغرامات. تلويح إدارة بايدن بوقف تدفق ذخائر وقذائف مدفعية استخدمتها إسرائيل منذ 7 تشرين الاول (أكتوبر) الماضي هو إقرار متأخّر بهذا التباطؤ لمسار التحوّل التدريجي في الموقف الاميركي.

ما يقوله بايدن لنتنياهو هو إعادة تأكيد الموقف الأميركي بأنّ المشكلة مع رئيس الحكومة وليس مع إسرائيل، أي سنواصل دعم إسرائيل بالقبة الحديدية وندافع عنها في حال هاجمتها إيران، وسنساعدها في اغتيال قادة "حماس" المتورطين في هجوم غلاف غزة، لكننا لا نؤيّد إستهداف المراكز المدنية الفلسطينية أو الغزو البري لمدينة رفح.

بعدما عبر المدنيون من شمال غزة إلى جنوبها بضمانات إسرائيلية ودولية، حوّلهم نتنياهو إلى رهائن في علاقته مع الأميركيين، وأعطى الجيش الإسرائيلي الأوامر خمس مرات لدخول رفح، وهو يعلم أنّ ليس لديه ما يكفي من الجنود على الأرض، وأنّ واشنطن لن توافق على الخطة العسكرية التي كان يفكّر بتبنّيها.

عملية رفح المحدودة التي بدأت الآن، هي محاولة أخيرة من نتنياهو لتسجيل نقاط من دون كسر الخطوط الحمر لواشنطن في استهداف المراكز المدنية، كما هي امتحان جديد لبايدن في علاقته مع نتنياهو، أي التمكن من السيطرة على حليفه المفترض.

حتى الآن يبدو أنّ هذه العملية تحظى بالحدّ الأدنى من القبول الأميركي لخطة إنشاء حزام أمني في الأحياء الشرقية لرفح، لحماية السيطرة الإسرائيلية على معبرها، مع سقف زمني لشهرين لاستمرار الضغط على "حماس" لتعديل موقفها التفاوضي. معبر رفح يمثل شريان حياة غزة الأخير مع العالم الخارجي، وبالتالي فإنّ إحكام السيطرة عليه يعني حصاراً كاملاً على حكم "حماس" في القطاع.

في المقابل، يؤدي هذا الإجراء إلى ظهور تحدّ دبلوماسي جديد لواشنطن في التعامل مع القاهرة المُرتبكة أصلاً أمام تطورات معبر رفح، كما يؤدي إلى مشكلة إسرائيلية، لأنّها ستكون مسؤولة عن وصول المساعدات الرسمية إلى غزة، أي خط تماس جديد لها مع واشنطن والمجتمع الدولي، عدا عن التحدّيات اللوجستية والأمنية في إدارة هذا المعبر الذي يزيد من تقويض مقومات أي دولة فلسطينية يمكن الإعلان عنها.

كل الضغوط الأميركية المتلاحقة وغير المسبوقة على رئيس وزراء إسرائيل، هدفها واحد، إعلان نهاية حرب ترى إدارة بايدن أنّها بدأت تهدّد قيادة أميركا دولياً، كما حظوظ الرئيس الإنتخابية محلياً. كل ما يسعى اليه البيت الأبيض هو أن تصبح غزة خارج دائرة الأخبار، لا سيما العاجلة منها، وبالتالي التركيز على أخبار أكثر إيجابية للبيت الأبيض، مثل الاقتصاد الاميركي الذي يستمر في التحسّن. لكن نتنياهو هو الآن في مرحلة النكران التي يعيشها الطغاة في آخر فترات حكمهم، حيث يردّد شعارات مثل: "سنقف لوحدنا" و"سنقاتل بأظافرنا"، وعليه في النهاية أن يختار بين جو بايدن وايتمار بن غفير، وبين الخروج الآمن من السلطة والسقوط المدوّي سياسياً وقانونياً.

"حماس" أيضاً أمام تحدّ من نوع آخر. وافقت الحركة على الهدنة مع إسرائيل ليل 6 أيار (مايو) الجاري، أي بعد ساعات من إسقاط الجيش الإسرائيلي لمنشورات تحضّ المدنيين على إخلاء جنوب شرق رفح إلى دير البلح والمواصي، وبالتالي أعطى الانطباع عند اليمين الإسرائيلي أنّ "حماس" تتراجع ويجب الاستمرار في الضغوط حتى ينخفض سقفها في التفاوض حول تبادل الرهائن وطبيعة الهدنة.

تراجعت قدرات "حماس" في إطلاق الصواريخ، كما أنّ استهدافها للجنود الإسرائيليين انخفض بعد تقليص انتشار القوات الإسرائيلية في غزة، وبالتالي يبرز أمام "حماس" تحدّي إيجاد دينامية عسكرية أو سياسية تضغط لصالحها في التفاوض، من دون إعطاء الانطباع انّها ترفض وقف إطلاق النار.

نتنياهو هو أفضل عدو لنفسه حالياً، وعلى حركة "حماس" أن تستمر بانضباطها ولا تتصرّف بما يساعده في تغيير سردية إنّه يقود دولة مارقة.