الإغريق هم أوّل من عرف المسرح، وبنوا المسارح، ومدرّجاتها، وعيّنوا أين يجلس المشاهدون بحسب مكاناتهم ومقاماتهم الاجتماعية والاعتبارية، ولكن أن يحضر العرض المسرحي في أزمان ما قبل الميلاد عشرات الآلاف من المشاهدين، فهذه هي النقطة التي تلفت القارئ وهو يطالع جانباً من تاريخ المسرح الإغريقي. «سُمّيَت أماكن المتفرّجين ب«المسرح»، وكان وراء الأوركسترا غرفة إضافية صغيرة حُفظت فيها مستلزمات المسرح، وَسُمّيت هذه الغرفة بسكين «SKENE»، وفي وقت لاحق أضيف إليها جناحان، وكان المسرح من ثلاثة مستويات، على الصفوف الثمانية والسبعين يجلس أكثر من 17000 متفرّج، وفي الصف الأول كان يجلس الكهَنَة والحكام وكبار المسؤولين، وَسُجِّلت الأسماء على الأماكن، أما مكان الشرف المركزي، فكان يعود إلى كاهن الإله ديونيسوس».
قصة تاريخ المسرح في حد ذاتها هي «مسرحية». لتكن مثلاً «مسرحية المسرح» أو «رواية المسرح». وبكلمة ثانية، «المسرح داخل المسرح»، أما ما هو داخل المسرح فهو اللبّ، الذي أسمّيه الآن «الشعر»، ثم اللبّ الآخر داخل المسرح وهو «التاريخ». ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإلا لماذا سُمي المسرح «أبو الفنون»، ففي داخله تظهر تجليات الفنون البصرية، من خلال التكوين التشكيلي لديكور العرض المسرحي، وتظهر الموسيقى، وموسيقى الإضاءة، والإضاءة في حد ذاتها لها تجلّياتها التشكيلية.
هل كانت كل هذه العناصر المسرحية موجودة في العرض الإغريقي الذي قرأنا عنه قبل قليل؟ لا، ومع ذلك، كان يأتي إلى العرض الكهنة والحكام وسبعة عشر ألف متفرّج، وبين هؤلاء المتفرجين المزارع، والحائك، وسائس الخيول، ومربي النحل، والإسكافي، والرسّام، والبنّاء، وغيرهم من أهل أثينا التي كانت، آنذاك، تعج أيضاً بالفلاسفة.
«أثينا» اسم أحد الآلهة اليونانية في الأصل، ومع ذلك يليق بتلك المدينة الثقافية منذ آلاف السنوات أن يطلق عليها «العلبة»، أي «الصّالة»، إن أمكن تدوير العلبة إلى معنى مسرحي، غير أن «العلبة» مرتبطة اصطلاحياً بالثقافة الرومانية (العلبة الإيطالية)، ولم يكن الرومان يحبّون المسرح أكثر من اليونان أو الإغريق، وبقيت الأولوية في تاريخ المسرح لأثينا. الأرجح أن اليونانيين كانوا يذهبون إلى المسرح بالفطرة الاجتماعية، إن كان هناك مصطلح بهذه العبارة.
لم يكن مسرح أثينا القديمة أرستقراطياً على طريقة المستلزمات الاجتماعية الأوروبية حين يذهب الناس للأوبرا مثلاً، ولم يكن مسرح عبثاً أو مسرح افتعال. كان مسرح الشعر والتاريخ للناس، وللحياة، وللفكر.
التعليقات