يسعى "حزب الله" الى فرض معادلة جديدة في صراعه العسكري مع إسرائيل، بهدف تحييد مقاتليه، كما لو كانوا مدنيّين، بعدما لامست خسائره البشرية حدود الـ340 قتيلاً، بينهم 13 قائداً ميدانياً، وهو رقم ضخم بالنسبة الى جبهة أريد لها أن تكون جبهة مساندة لا جبهة تحرير أو جبهة دفاع. وبعدما أدركت إسرائيل أنّ هذه الإستهدافات القاتلة بدأت تترك آثارها السلبية على معنويات "حزب الله"، قيادةً ومقاتلين وبيئةً حاضنة، جعلت من هذه العملية الدموية هدفاً قائماً بذاته، بحيث أصبحت استراتيجية الجيش الإسرائيلي، حتى إشعار آخر، تقوم على القتل.

وقد تلقى الجيش الإسرائيلي أوامر سياسية مباشرة بالقيام بذلك، في آخر زيارتين قام بهما وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت ورئيس الأركان هيرتسي هاليفي لمقر قيادة الجبهة الشمالية. ومن الواضح أنّ هناك تنسيقاً عسكريّاً بهذا المنحى مع الجيش الأميركي، إذ إنّ موضوع "حزب الله" و"أذرع" إيران في المنطقة، كان محور أحدث اتصال بين وزيري الدفاع الإسرائيلي والأميركي، و"بيت القصيد" في زيارة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي مايكل كوريلا، تل أبيب، قبل يومين.

وتعتقد مصادر دبلوماسية معنية بالوساطة لاحتواء التصعيد على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية أنّ تل أبيب طلبت، في مقابل رفض البيت الأبيض وحلفائه الغربيين توسيع الحرب على لبنان، دعم استراتيجية القتل، كبديل لا بد منه لاستراتيجية توسعة الحرب.

ولا تحتاج إسرائيل لتواصل هذه الاستراتيجية الى معلومات استخبارية أميركية أو غربية لتحديد هويات المقاتلين في "حزب الله" وأماكن وجودهم المحتملة، فهي تملك ما يلزم، بشريّاً وتقنيّاً، من أجل تحقيق ذلك.

في الواقع، إن طلب إسرائيل الأهم من البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية والقيادة الوسطى في الجيش الأميركي، هو مواصلة التنسيق وإظهاره، حتى يرتدع "حزب الله" عن الانقلاب على دفع الأثمان بالذهاب الى حرب، من خلال استمرار إفهامه وإيران بأنّ البيت الأبيض سيكون الى جانب إسرائيل، بشكل لا لبس فيه، إن تقرر الانتقال من حرب استنزاف الى حرب تدمير!

نقطة قوة إسرائيل في هذا المجال هي نقطة ضعفها في آن، إذ إنّ الحكومة والجيش الإسرائيليّين يطالبان بثمن غال مقابل غضب سكان شمال إسرائيل الذين يضغطون، بكل الوسائل المتاحة، من أجل شن حرب واسعة على لبنان، بحيث تحتل بلادهم منطقة جنوب نهر الليطاني، بهدف نقل المنطقة الأمنية العازلة من الشريط الحدودي الذي أقيم في شمال إسرائيل، منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، الى قلب جنوب لبنان. وتتحجج إسرائيل حتى تمتنع عن ذلك، بأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها يرفضون هذه الحرب التي تحتاج الى دعمهم، سواء لجهة مواصلة التصدي للتنظيمات الموالية لإيران في اليمن والعراق وسوريا، أم لجهة ملء النواقص التي تفرضها حرب الجبهات المتعددة، في مخازن السلاح الإسرائيلية. ويدرك "حزب الله" هذه الحقيقة، لذلك هو يحاول تصعيب هذه المهمة على إسرائيل. حتى تاريخه، عجز، رغم كل المحاولات، عن وضع حد للسلوك الإسرائيلي القاتل، فكلما ارتاح لخطة استيقظ على كابوس. حاول أن يُعمي الجيش الإسرائيلي من خلال ضرب أجهزة التجسس الإلكترونية على الحدود وما وراء الحدود، كما منع مقاتليه من الوجود بالقرب من أجهزة إلكترونية، ولكنه فشل في ذلك، إذ إن التقنيات الإسرائيلية الحديثة تربط الميدان بطائرات تجسس لا يمكن لسلاح أرض - جو لدى "حزب الله" أن يتصدى لها، فهو يحاول، وقد نجح خمس مرات حتى الآن، في التصدي للمسيّرات، ولكنه لا يستطيع أن يصل الى طائرات التجسس الحديثة التي تحلق على ارتفاع شاهق، وتوصل صورها، لحظة بلحظة، إلى غرف العمليات المحصنة تحت الأرض، من حيث تصدر أوامر الاغتيال.

ولذلك، يعمل "حزب الله" على توسيع دائرة القصف، كلما نجحت إسرائيل في استهداف مقاتل من مقاتليه، من دون أن يلمس بأنّه يغامر في استدعاء حرب واسعة، متكلاً في ذلك على رفض غربي لتوسيع الحرب وتعب الجيش الإسرائيلي من أطول حرب يخوضها والانقسام السياسي في إسرائيل، ساعياً، بالاتكال على كل ذلك، الى تحويل سكان الشمال المحبطين من "اللا قدرة على الحرب" الى ورقة ضغط لمصلحته، بحيث تضطر إسرائيل، في النهاية، الى القبول بتسوية، أو على الأقل بقواعد اشتباك جديدة، تمنع اغتيال المقاتلين ضمن الحرب! ولعل الوسيط الأميركي هو الأكثر إداركاً لذلك، فهو يحاول أن يستفيد من الضغط الإسرائيلي الكبير في مجال القتل، لتليين موقف "حزب الله"، من جهة، تماماً كما يحاول الاستفادة من الوقوف ضد الحرب لتليين موقف إسرائيل التي يصرخ سكان الشمال في وجهها، من جهة أخرى.

يسعى الأميركي إلى صيانة الحبل المشدود الذي يمشي عليه "حزب الله" وإسرائيل، تحت طائلة التخلّي عمّن يمكن أن يسقط أوّلاً! "حزب الله" في المقابل يحاول أن يفرض معادلة تهدف الى كسر المعادلة الإسرائيلية: وقف الاغتيالات مقابل وقف توسيع الاستهدافات. وهو يستفيد في ذلك من وضع إسرائيل الداخلي، من إرهاق جيشها ومن رفض الولايات المتحدة الأميركية توسيع الحرب بالاتفاق مع حلفائها الغربيين!