لكل أمةٍ أعيادها المرتبطة بثقافتها وعقيدتها وتاريخها وهويتها، ومن الأعياد ما يرتبط بالأمة كلها، كعيد الأضحى الذي يغرس في قلوبنا أننا أمة واحدة نشترك في أفراحنا ومشاعرنا وعواطفنا، مثلما نشترك في شعائرنا ومناسكنا وعبادتنا " وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فاتقون" (سورة المؤمنون: 52).

وقد تكاملت أركان هذه الأمة وتجلى وجهها السياسي والثقافي الحضاري بميثاق المدينة المنورة الذي اتسم بانفتاحه على المِلل، واحترام حرية المعتقد لأهل الكتاب، وإقراره لسيادة الشرع، وعلوّه على نزعة الثأر القبلي في سبيل بناء دولة العدالة وكرامة الإنسان وصناعة الأمة الوسط؛ وإذا أردنا أن نعيش واقع التميز والتقدم العلمي والمعرفي في هذا العالم، فعلينا الاستعداد وتهيئة المنطلقات اللازمة للبدء، وتحديد أهدافنا وإلا صار العمل عبثاً. إن وعينا بتاريخنا وهويتنا سيشكل بداية لإحياء القيم الوسطية والمعاني الحضارية التي قررتها وثيقة المدينة، ويؤهلنا للقيام بالدور العالمي المأمول، ففهمنا لماضينا وحاضرنا يؤثر على وعينا بقضايانا ونهجنا.

إن إحياء الوسطية يحمل أبعاداً سياسية وثقافية لمفهوم (أمة وسطاً)، ويستوعب التنوع ويفتح الباب للإبداع، مثلما هي أمة وسط جغرافياً: تتوسط العالم، وتتوسط أوروبا وآسيا الأوراسية، وهذا ما يحثنا على تنمية الوسط العربي والإسلامي، وعلى تذكُّر أهمية صلات بلاد الشام التاريخية المستمرة بالجزيرة العربية ومصر والعراق، وأن نجعل خير أمورنا أوسطها، فلا ننساق خلف خطابات التفتيت والتجزئة.

ويقترن عيد (الأضحى) برحلة المؤمنين إلى بيت الله الحرام، وفي هذه الرحلة المليئة بمعاني التجرد والبذل والعطاء والافتقار، يستوحي المؤمنون المعاني العظيمة من مشاهداتهم، وكما أن القبلة تتوسط صحن الحرم، فإن المؤمن يتوسط بين الأمم، ليكون في موقع مركزي ينأى بنفسه عن التطرف والغلو والاستعلاء في الأرض.

تذكرنا شعيرة الحج بأهمية الربط بين دروب الحج ودروب الأفكار في التقريب بين الأمم والشعوب. فالمُدن المقدسة هي أيضاً مراكز روحية وثقافية وتجارية تربط بين الديني والاقتصادي، وقد فَهِمَ بُناة الحضارة الإسلامية أنّ عَمارةَ الأرض نوع من العبادة فانتشرت الأسواق على طريق الحج من سمرقند إلى الحجاز وهو ما يعرف بطريق الحرير؛ كما استطاع الأسلاف أن يمزجوا بين السمو الروحي في زيارة الأماكن المقدسة وبين التنمية المستدامة في فتح الأسواق سبيلاً للقضاء على الفقر والجوع والعوز، وكل هذا داخل في عموم قوله تعالى: "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير." (الحج:28) لنكون من خلال هذه الوحدة الوجدانية والعملية، صادقين مع الخالق ومع أنفسنا.

إن ما نعيشه اليوم، في مشرقنا العربي الإسلامي، ليس صراعاً بين الحضارات أو الثقافات، بل صراع حول ماهية الثقافة وأبرز مظاهره هي "الإبادة الجماعية الثقافية" التي تقوم على العدوان القاتل ضد المجموعات التي لها جذور عرقية ودينية وسياسية وثقافية أيضاً، كما يحدث على أرض فلسطين في سعي لمحو الذاكرة المكانية عبر تغييب أصحابها من خلال القتل والتدمير الممنهج لأحياء ومربعات سكنية بأكملها. لقد دمَّر العدوانَ على غزّة، فيما دمَّر، جميعَ شعاراتِ التنميةِ المستدامة، وأبرزُها "عدم تركِ أحدٍ خلفَ الركْب"؛ ولا سيما مع سياسات الإماتة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي ضد أهل غزة عبر حرمانهم من كل مقومات الحياة في ممارسة للرهاب بمعناه الحقيقي.

إن أهم ما في مشكلتنا عدم الربط بين الأشياء والحقائق المطلقة، وهنا تبرز أهمية علم المعاني: لدينا احتلال دام أكثر من 70 سنة لأعز ما نملك وهي مدينة القدس الشريف التي يجري تطويقها بالمستعمرات والكانتونات أو المعازل، واقتلاع أهلها وإحلال المهاجرين اليهود محلهم عبر استخدام قوانين مخصصة لهذه الغاية مثل "قانون الغائبين" و"قانون التنظيم والبناء"، مع تزايد عنف المستوطنين.

إذا كانت العقيدة تجيز وتبرر تصرفات دولة الاحتلال بهذه الصورة المنافية لأية ادعاءات بأن هناك رغبة في السلم التفاوضي، فالسبب أن مؤسس تلك الدولة رآها كامتداد لأوروبا، ونحن في عيد الأضحى نؤكد أننا امتداد لحضارة عالمية، ونؤمن برب العالمين، وعلينا ألا نسمح للفتن الخارجية أن تنخر فينا، كما علينا أن نستمع لصوت شبابنا في الداخل وفي المهجر. إن النظرة الإسلامية كانت نظرة جامعة للأمة مع احترام الأقليات، في حين أنَّ نظرتهم قائمة على تجميع الأقليات.

يأتي عيد الأضحى ليذكرنا بأن الابتلاء إذا ما اقترن بالصبر والتسليم فإن الله سيبدله فرجاً ونصرا، فسيدنا إبراهيم عليه السلام كان شيخاً كبيراً عندما وهبه الله تعالى إسماعيل، فكان شديد التعلق به، فجاء الابتلاء بأن يتركه وأمه في واٍد غير ذي زرع، فلما كبر إسماعيل وبلغ أشده جاء الأمر لسيدنا إبراهيم بذبح ابنه، فاستجاب الأب وابنه للأمر، لكن الحكمة الإلهية جاءت لتظهر أنَّ التدين المقبول عند الله هو الذي يُدخل الفرح على قلوب عباد الله.

تأتي فلسفة عيد الأضحى لإظهار وحدة المسلمين ومساواتهم التي تتجلى في اجتماعهم لصلاة العيد، وكذلك في اجتماع الحجاج يوم عرفة على صعيد واحد لا فرق بين غني وفقير ولا أبيض وأسود ولا عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، هذه الوحدة يجب أن تكون نواة ومرتكزاً لوحده المسلمين من أجل تأسيس مجلس إقليمي من المشرق إلى العالم، تتكامل فيه الجزيرة العربية مع المشرق الذي يشكل عمقها الجغرافي والتاريخي، ويتكامل فيه الدرعان النبطي والنوبي على شاطئي البحر الأحمر لنخطو خطوة جادة نحو استقرار منطقتنا في المؤتمرات التي يُعدُّ لها في الأمم المتحدة، وذلك من خلال الاستقلال السيادي المتكافل بين دول الإقليم وبلدانه خصوصاً أن الأغلبية الساحقة من دول العالم اعترفت بالدولة الموعودة منذ بداية القضية الفلسطينية، أي دولة فلسطين ذاتها. وهنا نتذكر أهمية البدايات وضرورة رسم النهج من أجل بلوغ المقصد.

نسأل الله العلي القدير أن يديم على أوطاننا الأعياد بالطاعات والمسرات، وأن يفرِّج الكرب عن أهلنا في غزة وفلسطين وفي كل ديار المسلمين والعرب، وكل عام وأنتم بخير.