أرخت نتائج الانتخابات البلدية في تركيا في 31 آذار/مارس الماضي بظلالها على المشهد السياسي الذي أطل بأوجه مختلفة، منها ما كان متوقعاً ومنها ما يفتح على تساؤلات أكثر مما يدفع إلى توقع فتح صفحات جديدة.

كانت انعكاسات نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية التي جرت في العام الماضي «طبيعية» على خريطة التوازنات الداخلية؛ فانتصار «تحالف الجمهور» المؤيد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أحدث خضة في صفوف المعارضة التي بدأت رحلة البحث عن أسباب الخسارة المزدوجة. وكانت أولى الحرائق داخل حزب المعارضة الرئيسي( الشعب الجمهوري) الذي سرعان ما تخلى زعيمه كمال كيليتشدار أوغلو وانتخب أوزغور أوزيل رئيساً جديداً له. أما «الحزب الجيد»، وله أربعون نائباً، فقد انتظر نتيجة الانتخابات البلدية لكي يبني على الشيء مقتضاه. وإذ تلقى الحزب خسارة ثقيلة فيها بادرت زعيمته مرال آقشينير إلى التخلي عن رئاسة الحزب الذي انتخب مساوات درويش أوغلو رئيساً له.

وإذ عاش حزب العدالة والتنمية «مرحلة من الأفراح» بعد انتخابات أيار/مايو من العام الماضي جاءت الانتخابات البلدية لتقلب له، كما يقال، ظهر المجن ويحيل عاليه سافله وسافله عاليه.

خسر حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى واحتل المركز الثاني على مستوى تركيا ككل بنسبة 35 في المئة، فيما تخطاه حزب الشعب الجمهوري الذي احتل المركز الأول بـ 37 في المئة. بل لم ينجح «العدالة والتنمية» أيضاً في استعادة بلديتي إسطنبول وأنقرة وأضاف إليها العديد من البلديات التي كان يسيطر عليها العدالة والتنمية، مثل بورصة.

استدعت هذه الخسارة مراجعة نقدية داخل حزب العدالة والتنمية وتحدثت الأنباء عن خلافات وسجالات وكباشات داخل الحزب حول أسباب الهزيمة. وتراوحت بين اعتماد معيار المحسوبيات في اختيار المرشحين، وبين الغطرسة في أن الفوز حليف الحزب بغض النظر عن هوية وشخصية المرشحين، كما لعب الموقف المتراخي من قضية غزة دوراً في تراجع أصوات الحزب وسط المتدينين.

لكن على ما يبدو هذا كله لم يكن في عداد الخطة التي رسمها أردوغان لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ظهرت فجأة محاولات مختلفة لتحريك المشهد السياسي. وفي رأسها إعلان أردوغان رغبته في الانفتاح على المعارضة كي تخرج تركيا من مناخات التشنج التي أفرزتها الانتخابات الثلاثة خلال سنة. ومع أن التجارب السابقة غير مشجعة فقد تفاجأ الرأي العام بتجاوب حزب الشعب الجمهوري مع الدعوة.

وكان من أسباب التجاوب أن الحزب بدا، بعد تغيير قيادته وفوزه في الانتخابات البلدية، واثقاً من نفسه لا يخشى كمائن السلطة. لذلك كان اللقاء الأول بين أردوغان وأوزيل الذي انعقد في الثاني من مايو(ايار) الماضي عندما زار أوزيل أردوغان في مقر حزب العدالة والتنمية في أنقرة على أساس أن اللقاء بين قيادة حزبين لا بين رئيس للجمهورية ورئيس لحزب آخر.

ومنذ ذلك اللقاء بدأت تطفو على سطح اللغة السياسية مفردة «المصالحة» وأحياناً «التطبيع». لكن الرئيس التركي كان حريصاً على وصف الاجتماعات بمحاولات لـ «تليين» الأجواء. وهذا لا يعتبر مصالحة بمعنى الكلمة بل مجرد «ترييح» المناخ السياسي. وأعقب ذلك لقاء بين أوزيل وزعيم حزب الحركة القومية اليميني دولت باهتشلي.

غير أن هذه اللقاءات لم ترُق للعديد ممن يشككون في جديتها. فالبعض رأى أنها محاولة من أردوغان لسبر تفكير المعارضة ولا سيما الشعب الجمهوري وكيفية التعرف على ما يدور في رأسه لمواجهته لاحقاً. بل إن الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري كيليتشدارأغلو يقول إن العلاقة مع أردوغان «لا تكون باللقاء معه بل بمواصلة الصراع ضده».

في موازاة اللقاء بين أردوغان وأوزيل كانت أيضاً زيارة آقشينير إلى أردوغان في القصر الرئاسي. وكانت زيارة مفاجئة. ذلك أن آقشينير لم تعد رئيسة للحزب الجيد ولكنها لا تزال تحتفظ بتأثيرها على نصف النواب على الأقل. ولذلك انتقد رئيس الحزب درويش أوغلو الزيارة وقال إنها جاءت بصفتها الشخصية، ومن يريد اللقاء مع الحزب عليه أن يلتقي مع رئيسه دون غيره. زيارة آقشينير رفعت من نسبة التشكيك في لقاءات المصالحة واتهام أردوغان بأنه يسعى من هذه اللقاءات إلى تشتيت صفوف المعارضة وزرع الخلافات داخلها.

يستدل هؤلاء على ذلك من محاولات أخرى لحزب العدالة والتنمية بعد خسارة الانتخابات البلدية إلى الانقلاب على نتائجها مرتين. الأولى جاءت في اليوم التالي للانتخابات، في الأول من نيسان/إبريل، حيث حاولت اللجنة المحلية للانتخابات اعتبار الفائز ببلدية «فان» التابع لـ «حزب المساواة والديمقراطية للشعوب» عبدالله زيدان خاسراً وتنصيب المرشح الخاسر التابع لحزب العدالة والتنمية بدلا منه. وقد فشلت هذه المحاولة. والثانية في الثالث من حزيران / يونيو الجاري بإقالة واعتقال رئيس بلدية حقاري التابع للحزب الكردي محمد صديق آقيش وتعيين محافظ المدينة علي كيليتش بدلاً منه. وقد نجحت هذه المحاولة.

بعد ظهر الثلاثاء الماضي رد أردوغان الزيارة إلى أوزيل في مقر حزب الشعب الجمهوري في أنقرة. لا أحد يريد أن يظهر بمظهر المعرقل للمصالحات. لكن الأمور دائماً بخواتيمها العملية ومسار المصالحات محفوف بالكمائن.