كما يفعل طلبة المدارس والجامعات، حين يتعين عليهم اجتياز مقرر دراسي ما مضطرين، لأنه لا المقرر نفسه يجذبهم، ولا ما هو على صلة به من مراجع، فإنك قد تضطر لقراءة كتاب كاملاً، لأغراض بحثية صرفة، لا حافز حقيقياً لديك سوى غاية البحث، فالكتاب ممل، وأسلوب كاتبه في إيصال الفكرة غير موفق، وربما ثقيل، ولولا أن المشروع البحثي يقتضي قراءة هذا الكتاب، ما كنت واصلت قراءته؛ لأنه لم يجذبك لا في بدايته ولا في منتصفه، حتى تصل نهايته.

هناك كتب من طراز آخر مختلف. كتب تقرأها من أجل المتعة والفائدة. لسنا محمولين على فعل ذلك، وإنما نفعله بدافع الشغف والانجذاب نحو هذه الكتب، ونحو أسلوب كاتبيها، لا مشروعَ بحثياً في أذهاننا ولا محاضرة نعدّ لتقديمها تقتضي منا قراءة هذه الكتب، وإنما نقرأ من أجل القراءة، نفعل ذلك بكامل الإرادة والاستمتاع والفضول والشغف. هذا النوع من الكتب لن تملّ من العودة إليه لا مرة ثانية فقط، وإنما مراراً، لن يكون عليك قراءتها كاملاً في كل مرة بالضرورة. تكفي العودة إلى أجزاء منها شدّتك في القراءة الأولى، وكثيراً ما قد تفاجأ حين تشعر أنك أمسكت بفكرة لم تلحظها في المرة السابقة، أو تراءت لك ومضة لم تبصرها من قبل.

يمكن وصف هذه الكتب بأنها ولّادة خصبة للمعرفة، وستكتشف أيضاً أن مضمون هذه الكتب لا يتقادم، رغم مضي الزمن عليها؛ لأنها كتبت لتعيش، ليس لأن أصحابها عقدوا العزم على أن يفعلوا ذلك، وإنما لأن ما اجترحته قرائحهم من إبداع وأفكار يمكن وصفها عابرة للزمن. لن نكرر الجملة القائلة بأن فلاناً من الكتّاب أو كتاباً من الكتب سابق لزمنه، وإنما نقول إنه عابر للزمن بمقدار ما كان ابن زمنه.

كم من العبارات وأبيات الشعر ومقولات الفلسفة التي مضت عليها القرون وما زالت حيّة كأنها كتبت اليوم، وإن وجدنا روحها ابنة زمنها، فإنها تعيننا على تأويل حاضرنا، ببلاغة لن نبلغها مهما سعينا، هذا ما يفسر لماذا تعيش معنا أشعار المتنبي والمعري ومسرحيات شكسبير وقصص تشيخوف ومقولات ابن رشد وهيغل وديكارت حتى اليوم.

ما يصحّ على الكتب وكاتبيها، يصحّ على الأشخاص. في ذهن كل واحد بالضرورة، أو هكذا يفترض، أسماء أشخاص ملهمين مرّوا في حياته أو مازالوا فيها، ألهموه بالفكر والمعرفة وحبّ الحياة، منهم تعلّم ويتعلم الكثير. يمكن القول، إن الوقت الذي تقضيه مع شخصٍ ما، يُوزن بما يعود به عليك من جديد أو مفيد، فما أكثر اللقاءات التي يمكن إدراج ما استغرقته من وقت في خانة «الوقت الضائع».