تعودُ البداياتُ الأُولَى لمفهومِ «الدبلوماسيَّةِ العامَّةِ» إلى عامِ 1965، عندمَا قامَ Edmund Gullion، وهُو عميدُ كليَّةِ القانونِ والدبلوماسيَّةِ في جامعةِ «تفتس» الشهيرةِ، ‏بإنشاءِ «مركزِ الدبلوماسيَّةِ العامَّةِ» في الجامعةِ، وسرعانَ مَا انتشرَ هذَا المصطلحُ داخلَ الأوساطِ الحكوميَّةِ الأمريكيَّةِ، ثمَّ أصبحَ أساسًا للمهامِّ والأنشطةِ الخارجيَّةِ ‏لوكالةِ المعلوماتِ الأمريكيَّةِ USIA التِي تأسَّستْ عامَ 1953م، وتولَّتْ مهمَّةَ نشرِ المعلوماتِ والأخبارِ خارجيًّا، إلى أنْ تمَّ إغلاقهَا عامَ 1999، وإسنادِ مهامهَا لإذاعةِ «صوتِ أمريكا».

وتضمَّن وصفُ Gullion للدبلوماسيَّةِ العامَّةِ منذُ البداية، كونهَا تسعَى للتأثيرِ فِي الرأيِ العامِّ في دولٍ أُخْرى بوسائلَ تتعدَّى استخدامَ الدبلوماسيَّةِ التقليديَّةِ، وتشملُ التفاعلَ الشعبيَّ والتواصلَ الثقافيَّ، وكانَ واضحًا مِن هذَا الوصفِ سعيهُ للنَّأيِ بمفهومِ الدبلوماسيَّةِ العامَّةِ عَن مفهومِ البروباغاندا سيئ السمعةِ؛ الذِي كانَ سائدًا بقوَّةٍ، واستخدمتهُ «وكالةُ المعلوماتِ الأمريكيَّة» خلالَ فترةِ الحربِ الباردةِ، كأداةٍ من أدواتِ الحربِ المعلوماتيَّةِ والنفسيَّةِ.

هذَا النأيُ عن البروباغاندا هُو أمرٌ في غايةِ الأهميَّةِ، ليسَ فقطْ لعدمِ أخلاقيتهَا واعتمادهَا علَى الخداعِ وتزييفِ الحقائقِ، ولكنْ أيضًا لأنَّها المدمر الأكبرُ للمصداقيَّة، التي بدونها تفقدُ الدبلوماسيَّةُ العامَّةُ أهمَّ خصائصِهَا، وهِي القدرةُ علَى الإقناعِ والتأثيرِ. ولأجلِ ذلكَ فإنَّ إستراتيجيَّاتِ الدبلوماسيَّةِ العامَّةِ وتوظيفَ مصادرِ القوَّةِ الناعمةِ ينبغِي أنْ تتضمَّن -دومًا- إجراءاتٍ لبناءِ الثقةِ، وكسبِ الاحترامِ، وتجنُّبِ أساليبِ الدعايةِ تحتَ أيِّ ظرفٍ كانْ.. مجدَّدًا ليسَ فقطْ للأسبابِ الأخلاقيَّةِ وحدهَا، ولكنْ لأنَّ البروباغاندا مهمَا بدت الحاجةُ لهَا، فإنَّ نتائجهَا تكونُ -غالبًا- سلبيَّةً في نهايةِ المطافِ، وتؤدِّي لفقدانِ الثقةِ والتعاطفِ مع البلدِ، خاصَّةً في ظلِّ التكنولوجيَا الحديثةِ وشبكاتِ التواصلِ الاجتماعيِّ.

والواقع المؤسف هو أن التوقعات بانحسار البروباغاندا مع انتهاء الحرب الباردة لم تتحقق، حيث استمرت الولايات المتحدة خلال كل أزمة حقيقية تمر بها؛ بتحويل دبلوماسيتها العامة إلى بروباغاندا تغفل فهم واحترام ثقافة الآخر، وتمارس سياسة ازدواجية المعايير، وتوظيف المعلومات كسلاح دعائي، وتعتبر كل ذلك أمراً جائزاً تفرضه المصالح والأزمات.

وهذَا الموقفُ ليسَ جديدًا في الواقعِ، ويمكنُ رؤيتهُ في تصريحاتٍ سابقةٍ لبعضِ كبارِ المسؤولِينَ الذِينَ خلطُوا بشكلٍ خاطيء بينَ مفهومَي «الدبلوماسيَّةِ العامَّةِ»، و»البروباغاندا». حيثُ قالَ الدبلوماسيُّ المعروفُ ريتشارد هولبروك: «سمُّوهَا دبلوماسيَّةً عامَّةً، أو علاقاتٍ شعبيَّةً، أو حربًا نفسيَّةً، وحتَّى لو شئتمْ سمُّوها بروباغاندا». كمَا قالَ السفيرُ كيم اليوت في مقالٍ لهُ فِي صحيفةِ نيويورك تايمز: «الدبلوماسيَّةُ العامَّةُ هِي المُسمَّى اللطيفُ للبروباغاندا الدوليَّةِ».

وتمر اليوم الدبلوماسية العامة، والقوة الناعمة الأمريكية (وبالتالي العالمية)، بأسوأ مراحلها نتيجة للحرب الخطيرة في أوكرانيا، والممارسات اللاإنسانية في غزة، وهي -في اعتقادي- مرحلة تمثل الضربة الأقوى لمصداقية أنشطة الدبلوماسية العامة، وجاذبيتها وقدرتها على التأثير، حيث لم يقتصر الأمر على حرب المعلومات المضللة والزائفة، بل تم إقحام الرياضة والفن والثقافة والتعليم ومنبر المنظمة الدولية في المواجهة، وذلك بشكل يتعارض مع كثير من القيم والأخلاقيات التي كان الغرب يرددها لعقود، ومن ضمنِهَا العدالةُ الدوليَّةُ، وتجنُّبُ خلطِ الرياضةِ بالسياسةِ، وعالميَّةُ الفنونِ وإنسانيتهَا، وحريَّةُ التعبيرِ، وحقوقُ الإنسانِ، وتسامحُ الثقافاتِ.