من منا يعرف اليمن جيدًا، ويمتلك خبرة شاملة عنه.

كل ما نعرفه ونعلمه عن أي شيء يعدّ قليلًا جدًا، ونذرًا يسيرًا، قياسًا بفيض المعلومات والتفاصيل، ما يبدّد لذة وهم المعرفة الفردية الكاملة. وإذا كنا نريد امتلاك حقيقة المعرفة الجماعية، فينبغي أن تتأسس على معلومات وتفاصيل وأبحاث ودراسات دقيقة، لا تستقي من بحر الزيف والتضليل أو تنتقي من بساتين دون بساتين، نتيجة قناعة بأيديولوجيا معينة. ينبغي التكامل المعرفي، ليتسنّى القول "نحاول" أن نعرف اليمن جيدًا.

الحقيقة، أن لا أحد يعرف شيئًا أو كل شيء عمّا يخصّه معرفة كاملة، حتى عن أجسامنا وما تحتويه من خلايا وجزيئات. فما بالنا بما ليس تحت أيدينا، وما لا نملك مصيره.

تخيّلوا وتخيلن مقدار جهلنا بالمستغل من مساحة تتجاوز 500 ألف كم مربع، وتوهمنا لقدر الكنز المخبوء تحت الأرض، ما يجعل "مواتساتنا" (أي رسائل الواتساب) مملوءةً بخرافات الكنوز والثروات غير المستغلة مستشهدين بخبراء "مجهولين"، دوليين وإقليميين ومحليين.

كيف يمكننا معرفة اليمن، تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا. كان الشهيد الأستاذ محمد أحمد نعمان يدعو من وقت مبكر إلى دراسة اليمن بكل أبعاده، ويخلص في مناقشاته وحواراته مع كثير من أنداده ومجايليه إلى ضرورة البحث لاكتمال المعرفة باليمن. وتضمّن كتابه الأثير "الأطراف المعنية في اليمن" (1965) دعوته هذه بالقول: "إننا أشدّ ما نكون حاجة لدراسة أنفسنا.. وبلادنا.. تاريخًا وواقعًا، حتى لا ننطلق في تخطيطاتنا راكضين وراء الخيالات، نتصارع ونتناحر على مجرد الاحتمالات والتصورات. فلنعرف أنفسنا أولًا وجيدًا حتى نعي حقيقتنا، ونقوى على التفكير الواقعي".

ثم، في منفاه الاختياري في بيروت، ظل يناقش أصدقاءه في ذلك، ويراسل بعض إخوته، وهو والدي فؤاد، خلال دراسته في الولايات المتحدة الأميركية ليجمع له قائمة المواد اليمانية في المراجع والمصادر الأجنبية.

وأخيرًا، قبل شهور من استشهاده (28 حزيران (يونيو) 1974) في بيروت، ألقى وسط مقر نادي الخريجين في صنعاء محاضرة حول حركة الأحرار البواعث والنتائج، وأجاب عن إحدى التساؤلات بما لم يخلُ من إشارة إلى الحاجة اليمنية للمعرفة الجيدة باليمن:

[بحثنا عن عون الجميع، ولم ننغلق على أحد، ولكن ظللنا دائماً نقول لن نحلّ المشكلة في بلادنا إلّا بأيدينا. مهما كان عطفهم علينا فإنهم لن يقووا على استيعاب الصورة اليمنية. لأننا في كل مرحلة من المراحل نكتشف جديداً في اليمن.. نكتشف جهلنا فلا نعرف شعبنا ولا نعرف بلادنا، لا نعرف التقاليد، لا نعرف العادات، وما زلنا حتى اليوم نواجَه بمفاجآت في بلادنا جميعاً.. وكل يوم ونحن نستفيد جديداً من بلادنا فكيف بذلك الإنسان المنشغل بقضيته، الغارق فيها، ولم يجد حلاً بعد. أي "طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ"].

ثم تتابعت أحداث يمنية كثيرة وتوالدت أزمات مثيرة وظل من ظل وضل بالقول: نعرف اليمن. واتضح أنهم كباقي اليمنيين من المغرّدين على كثرة متابعيهم، ما أوتوا من المعرفة إلّا قليلًا، لأن ما خفي أعظم وأغزر وأكثر.

وكلما ازددتُ علمًا.. زادني علمًا بجهلي

نجد في كتاب "الرمال المتحركة" للبريطاني ديفيد ليدجر (1983) استشهادًا بخبير بريطاني سابق في ما يخصّ الجنوب اليمني: "إن أي شخص يدّعي فهم سياسة الجنوب فهو مضلّل".

ولأن الأزمات متشابكة والتفاصيل معقّدة، والمفاجآت متوالية، ترتبك معها كل مشاريع الحلول أو تتعثر خطوات الوصول إلى مشارف الحلول، ومن الجدير أثناء تناول اليمننة الأخذ بنصيحة المفكر اليمني الشاب محمد العلائي في كتابه المهم "الجمهورية الفانية.. مذكرة حول الانهيار والحرب في اليمن" (صادر عن دار الفارابي): "إن على المرء أثناء الكتابة عن اليمن أرض الاحتمالات وليس الحتميات، أن يكون متواضعًا في ثقته بخلاصاته وبقدرة اللغة على البيان. لأن الكلمات والمصطلحات المدوية يمكن أن تحجب وتضلّل أكثر ما تكشف وتنير".

إذًا لنقارب المعرفة المتواضعة:

فقل لمن يدّعي في "اليمن" معرفةً .. عرفت شيئًا وغابت عنك أشياءُ"

أو:

فقل لمن يدّعي علمًا بأمتنا .. عرفت شيئًا وغابت عنك أشياءُ

ليكن تطويع كل معرفتنا بتكامل معارفنا لنبلغ "احتمال" السلام لليمن الذي لا يتحقق بغير وعي سليم ومتكامل بالخصائص الموضوعية والواقعية.