تنطلق التحولات الاجتماعية بتأثير عوامل مختلفة، سياسية واقتصادية. بعض العوامل يطلق مسار التغيير، وبعضها يحدد وجهته أو يؤثر في سرعته. ويقال في العادة إن سياسات الدولة محرك قوي للتغيير، كما أن تحولات الاقتصاد والسوق تعجل الحراك بين الطبقات الاجتماعية، وتسهم في تغيير الثقافة السائدة. تحولات السياسة في النطاق العالمي مؤثرة هي الأخرى، ولا سيما تلك التي تحدث في المجتمعات الأقوى اتصالاً أو الأكثر تاثيراً. نعلم - على سبيل المثال - أن تحولات المجتمع الأميركي تنتقل سريعاً إلى الساحة الدولية فتغدو ظاهرة كونية. لكن التأثير ليس حكراً على هذه البلاد، وإنما نضرب بها المثل لسعة تأثيرها في النطاق العالمي.
هذا ليس من نوع الكلام العام الذي يقال في سياق «السوالف»، فهو نتاج لدراسات علمية معمقة وميدانية، على تحولات جرت تكراراً في أكثر من بلد. زبدة القول إن التغيير حقيقة من حقائق الحياة التي لا يمكن منعها، وإنه يحدث بتأثير عوامل عدة، ولذا لا يحسن بالعاقل أن يتصدى للتحول الاجتماعي أو يقاومه أو يتخيل إمكانية وقفه.
- ما الذي يحدث حين يبدأ المجتمع التحول؟
دعنا نضرب مثالاً عن شاب ينتمي لعائلة ريفية فقيرة، انضم للمدرسة ثم الجامعة وتخرج بشهادة عالية، فحصل على وظيفة مرموقة: ما تصنيفه الاجتماعي الآن (في أي طبقة)، وكيف سيعامله الناس، وكيف سينظر هو إلى نفسه وإلى معاملة الناس له.
لعلَّ بعض القراء يتذكرون «هرم ماسلو» الذي يقرر أن الإنسان في حالة الفقر المطلق، سيكون مشغول الذهن تماماً بما يمكّنه من مواصلة العيش. فإذا حقق كفايته من هذا، سينشغل بتحقيق الأمان كحاجة نفسية ذات علاقة مباشرة بالعيش والكرامة. ومع نجاحه في هذه المرحلة، سيتجه إلى ما سماه إبراهام ماسلو الحاجات الاجتماعية، وأبرزها الحاجة للتماثل مع الغير؛ أي إقرار المحيطين بأنه مساوٍ لهم وليس أدنى منهم، وأنه جدير بنفس المكانة التي يتيحها النظام الاجتماعي القائم لكل أعضائه. بعد ذلك تأتي مرحلة البحث عن التقدير، ثم تحقيق الذات.
هذا مثال عن فرد، أظن أن كثيراً منا قد لاحظه يوماً ما، لكن ثمة مراحل زمنية تشهد تحولات واسعة النطاق، في المجتمع كله، تنعكس على سلوكيات الأفراد كافة أو غالبيتهم. وأظن أن كثيراً من السعوديين، الذين تتراوح أعمارهم بين الأربعين والستين، قد مروا بهذا التحول، أو شهدوه في أشخاص من جيرانهم أو معارفهم، في سبعينات القرن العشرين، حين تعرض المجتمع السعودي لتحولات عميقة، بتأثير خطط التنمية الاقتصادية الأولى والثانية (1971 - 1980). ومثله ما حدث بعد الاجتياح العراقي للكويت أواخر 1990.
حين تستعرض طيفاً واسعاً من أبناء المجتمع، سترى أن كثيراً من الشخصيات الرفيعة، اليوم، جاءت من عائلات متواضعة اقتصادياً أو اجتماعياً، لكن مكانتهم ارتفعت نتيجة تعليمهم أو ارتفاع مداخيلهم أو أدوارهم الاجتماعية أو مراكزهم الوظيفية. وهنا لا نتحدث عن عدد من الأفراد، بل عن ظاهرة عامة نستطيع - من دون تحفظ - اعتبارها صورة نموذجية للتحول الاجتماعي.
مجتمع ما بعد التغيير، بكل أفراده أو غالبيتهم، يحمل مشاعر مختلفة عن تلك التي كانت في الماضي، وهذا يولّد ردود فعل قد لا تكون مواتية في جميع الأحيان. إن رغبة الأفراد، ولا سيما من الجيل الجديد، في التساوي مع الغير، قد يُنظر إليها من جانب الجيل الأكبر سناً كتمرد على نظام القيم السائد. وقد يميل بعض هؤلاء للتشدد في التعامل مع تعبيرات الشباب عن أنفسهم ومراداتهم. وعلى الطرف المقابل فإن الشباب ربما يواجهون هذا الموقف بردود فعل غاضبة. هذا الموقف وذاك هما التجلي الأبرز لما يسمى صراع الأجيال، وهو - في الأساس - صراع ثقافي وتعبير عن تحول ثقافي.
التعليقات