تظهر يومياً على شاشة الحدث صورة طفلة تجهش بالبكاء وهي تقول: «..منين بدنا نعيش..»، وما أن تنتهي الطفلة من المشهد العفوي الذي التقطه المصوّر بذكاء حتى تظهر في اللحظة ذاتها صورة أخرى لعدد كبير من زعماء العالم وهم يصفقون في صورة تذكارية تجمعهم بعد التقائهم في إحدى المناسبات الدولية..
تلك الطفلة تبكي، وبعدها مباشرة يصفق زعماء الدول الكبرى، وأحسب أن ترتيب الصورتين بهذه المشهدية الفارقة لم يكن صدفة، بل هو ترتيب مهني ذكي يعتمد بالدرجة الأولى على ما أسميه هنا:.. الصورة وما أمامها، وما خلفها، وكيف يمكن أن تعادل الصورة ألف كلمة كما يقولون، إذا عُرف كيف توظفها، وقبل ذلك كيف تلتقطها..
في الذاكرة البشرية ثمة شريط طويل من الصور هي في المجمل (صورة القرن العشرين).. القرن الذي يصفه بعض المفكرين بقرن القسوة والهمجية وسطوة العنف والشر.
من صورة القنبلة النووية الأمريكية، وهي تحرق البشر والحجر والشجر في اليابان، إلى صورة الطفلة الفيتنامية الملتهبة بالنابالم وهي تصرخ راكضة في الشارع: «يحرق، يحرق»، إلى صورة الطفل الكردي (رايان) مكفوءاً على وجهه، ميتاً بعد غرقه في أحد البحار، إلى صورة الطفل السوري المبهوت من هول الدمار وقد تغطّى وجهه بالردم والتراب، فكان أشبه بزهرة حمراء صغيرة طالعة في الخراب.
أمام الصورة طفل، وخلف الصورة طفل، ولعلّك تلاحظ أن بطولة صورة القرن العشرين تذهب إلى الأطفال الذين يصنعونها ببراءتهم العذبة وهم في الموت أو في الطريق إليه، وبعض هؤلاء الأطفال يبتسم للصورة، وبعضهم يظهر جامداً جادّاً كأنما يسخر من المصوّر، هذا الذي يتهافت على السبق الصحفي لكي يبيع الألم البشري لسوق الصحافة بحفنة دولارات..
صورة القرن الحادي والعشرين لم تختلف حتى الآن عن صورة القرن الفارط بلغة أهلنا في المغرب العربي، وبالفعل، قد انفرطت في قرن الأطفال ذاك كيانات ومؤسسات ودول وأفكار عديدة، كما انفرطت أيضاً منظومات أخلاقية برمّتها بحيث امتدت صورة القرن العشرين في لحم القرن الحادي والعشرين، قرن الصورة هو الآخر، وهذه المرة هو أيضاً قرن الذكاء السيبراني والألعاب الإلكترونية والسينمائية والكمبيوترية، والغريب هنا أن بعض الأطفال أو الفتيان هم من يلاعبون الكمبيوتر، ويتنقلون بين المواقع والمنظومات السيبرانية بذكاء بشري مبكر، كما لو أنهم يريدون الانتقام لإخوتهم أطفال القرن العشرين، ولكن بصور جديدة قد لا تخطر على بال عقل الكمبيوتر نفسه.
مع كل ذلك، تبقى صورة كاميرا الفوتوغراف، بالأبيض والأسود تحديداً، هي صورة الذاكرة والتاريخ والأرشيف، وقد كانت أمام الكاميرا طفلة محترقة، واليوم خلفها امرأة مكتهلة تقول لأطفالها ستنفرط كل قرون الموت.
التعليقات