بين وجودية سارتر والتشاؤم شعرة معاوية كما يقولون، وكذلك ألبير كامو لم يكن بعيداً عن تلك السوداوية التي كانت تغلّف رواياته بل حياته برمّتها، أما جان جاك روسو فعلى الرغم من الجدار الفكري والفلسفي المحيط به إلا أن حياته كانت بين مدّ وجزر، بين شهرة ثقافية وفكرية، وبين وصمة ليست صغيرة في تاريخه الشخصي حين ترك أبناءه في ملجأ، في حين كان هو حديث الصالونات السياسية والثقافية في فرنسا التي تركها شبه مطرود في أواخر عمره. وما هذه السيرة المركبة من النجاح والإخفاق لصاحب «العقد الاجتماعي» سوى وجه آخر موارب للتشاؤم الذي طبع حياة وكتابات الكثير من مفكري وشعراء أوروبا: كافكا، وشوبنهاور، وليوباردي، وغيرهم ممّن «دجّنوا» التشاؤم، وحوّلوه إلى فلسفة.
الكثير منّا ينأى بنفسه عن القراءات التشاؤمية السوداوية حتى لو كانت من عيون الفكر والفلسفة، وحتى الشخصية المغلقة، الحذرة والتشكيكية ذات الطاقة المشعّة بالريبة والتوتر التي تسبب لك بالضرورة حالة متوترة أيضاً، لكن الطريف هنا أن تشخيص التشاؤمي أو السوداوي، إنما ينطوي على شيء من الغرائبية الطريفة وبخاصة إذا قرأت تشخيصات العالم أريتايوس (150-200 ميلادية)، وهو عالم معاصر للطبيب الشهير جالينوس.
يعود الباحث والمؤرّخ البريطاني روي بورتر في كتابة «موجز تاريخ الجنون» إلى ما كتبه أريتايوس قبل أكثر من ألفي عام عن التشاؤميين أو السوداويين. يقول: «يتخيل أحدهم نفسه عصفوراً أو ديكاً أو تحفة خزفية، ويرى آخر نفسه كاهناً أو خطيباً مفوّهاً أو ممثلاً يحمل قصبة، متخيلاً نفسه ممسكاً بصولجان العالم، ومنهم من يطلق بكاءً طفولياً طالباً أن يُحْمَل مثل طفل، وآخر يظن نفسه حبّة خردل، فتأخذه قشعريرة متواصلة خشية أن تلتهمه دجاجة».
في عام 1621 صدر كتاب تحت عنوان «تشريح السوداوية» لعالم يدعى روبرت بيرتون، وفيه قصة تحكي عن رجل كان فزعاً من قضاء حاجته من الماء خشية أن يُغْرق العالم، فيما كان آخر متيقناً من أنه خُلق من الزجاج وأنه سيتحطم عمّا قريب (من ترجمة ناصر مصطفى لكتاب «موجز تاريخ الجنون»).
على أي حال، اترك جانباً علم النفس أو علم الجنون، وانظر إلى هذه التداعيات والصور والخيالات التي تنتاب السوداويين من زاوية شعرية هذه المرّة. وتأمل بينك وبين نفسك في ما إذا كانت هذه التهويمات النفسية هي ذاتها الأصل الإبداعي والفني للسوريالية الأوروبية التي ظهرت في عشرينات القرن العشرين، ومن أعلامها في الرسم سلفادور دالي، غير أن المفارقة هنا أن الرجل لم يكن سوداوياً ولا متشائماً، وهو أيضاً ليس حبة خردل، ولم يكن مصنوعاً من زجاج.
التعليقات