ثم جاء طوفان الأقصى، الذي لم أبدِ يوماً تعاطفاً مع الجهة التي كانت وراءه، ولا مع من يقف خلف حماس، لتتضح أمامي الصور الحقيقية لما تعنيه الصهيونية، ولتنقشع الغمامة، وتتهاوى كل قصص بيع الفلسطينيين لأراضيهم، وهروبهم من وطنهم، ودورهم في رفض كل اتفاقيات ومقترحات السلام، وخرافة انتصار عصابات صهيونية عام 1948 على جيوش دول عربية عدة مجتمعة، وغير ذلك مما كشفه المؤرخ والبروفيسور الإسرائيلي إيان بابي، في كتبه ومحاضراته ومقابلاته المتعددة، والتي سعت جهات عدة للتعتيم عليها.
لقد تبيّن أخيراً عمق التغلغل الصهيوني، كحركة وكفكرة وكعقيدة مسيحية، قبل ان تكون يهودية، في كل مناحي الحياة في بريطانيا وأمريكا، من البيت الأبيض إلى الكونغرس، مروراً بالصحافة، والجامعات وصناعة الأفلام في هوليوود، والقنوات التلفزيونية الرئيسية، ومناهج المدارس، وهي مهمة أخذت من عتاة الصهاينة عقوداً طويلة ومضنية، صرفت خلالها عشرات مليارات الدولارات لشراء ذمم السياسيين، وإسكات المناوئين، وتغيير المفاهيم ومناهج المدارس، وغير ذلك من أفعال نضجت وأصبحت تعطي أُكلها، فمن منا، مثلاً، كان يعلم بمدى تورط أفضل جامعات العالم في دعم اقتصاد الدولة الصهيونية؟
يقول المؤرخ بابي إنه ومجموعة من المؤرخين، انكبوا منذ الثمانينيات على دراسة الوثائق السرية، التي تم الإفراج عنها من قبل بريطانيا وأمريكا، وإسرائيل، وإن حقائق كثيرة تكشفت لهم، غيّرت مفاهيمهم، ودعتهم للتساؤل عن ماهية الصهيونية في الفكر اليهودي، وكيف أنها الإيمان بالحق في أرض فلسطين التاريخية، الخالية، التي عادوا إليها بعد 2000 عام. وكيف أن الصهيونية الحديثة ولدت من رحم فكر مسيحي أفانجليكاني، يؤمن بأن عودة اليهود لفلسطين هي مقدمة لعودة المسيح للأرض. أما عموم اليهود فلم يكن لديهم يوماً اعتقاد بالعودة لفلسطين إلا إذا أراد الله ذلك، وليس بأفعال وجهود بشرية. لذلك رفض كبار الراباي، تاريخياً، فكرة الصهيونية، وأرض الميعاد. وأن أغلبية الذين آمنوا أساساً بالفكر الصهيوني كانوا من غلاة المعادين لليهود، بغية تشجيعهم على ترك أوروبا.
كما دحض بابي أسطورة أن مجموعة من العصابات العسكرية اليهودية استطاعت، في حرب 1948، الانتصار على جيوش دول عربية عدة، وأن النصر كان معجزة إلهية! فالحقيقة أن عدد القوات اليهودية فاق عدد الجيوش العربية مجتمعة، كما كانت أفضل تدريباً وسلاحاً بكثير، إضافة لذلك لم تشارك قوات جيش إمارة شرق الأردن، وهي الأفضل، في الحرب، لأسباب معروفة.
كما بيّن بابي سخف مقولة إن الفلسطينيين غادروا مدنهم وقراهم طواعية، فالوثائق التاريخية بينت، بما لا يدعو مجالاً للشك، أن استعدادات اليهود للقيام بالتطهير العرقي بدأت قبل تأسيس دولتهم بكثير. كما أن ما جرى قبل 1948 وبعدها من مذابح في الطنطورة ودير ياسين لم تكن مصادفة، بل خطّط لها، بغية دفع الفلسطينيين للهرب.
وأضاف أن ما أصبح مقولة شائعة من أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم مسألة غير دقيقة بتاتاً. فنظام الملكية تحت الحكم العثماني كان يسمح لأي فرد بتملك قطع أرض ضخمة، عليها مئات القرى، مثل ما كانت تملك أسر لبنانية كخوري وسرسق، اللتين تملك مرج ابن عامر، واللتين كانتا تقومان بتحصيل الإيجار من الفلاحين وتدفعان الضريبة للعثمانيين، واستمر ذلك لسنوات طوال. مع انتقال السلطة للبريطانيين، بعد سقوط الدولة العثمانية، تغير الحال، حيث نجح أعضاء في الحركة الصهيونية في شراء تلك الأراضي الضخمة من مالكيها، وهذا أعطاهم الحق، بموجب القانون البريطاني، في طرد من عليها من القرويين. كما قام بعض الفلسطينيين، بحسن نية غالباً، ببيع أراضيهم ليهود، ولكن بعد انكشاف المخطط، في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، لم يتم بيع أية قطعة أرض ليهودي.
وقال بابي إن ما يقال بأن الفلسطينيين كانوا دائماً وراء فشل أي حل للقضية هو مجرد وهم، وهذه شهادة من مؤرخ يهودي وإسرائيلي كبير، مستشهداً بوثائق تاريخية، وبما ورد في كتاب المؤرخ اليهودي الآخر آفي شلايم، في كتابه الجدار الحديدي، بأن الأمر كان في الغالب الأعم عكس ذلك. فقد كانت إسرائيل هي التي تبادر برفض أية حلول وسط أو سلام. حتى المبادرة التي عرضها ناصر عليهم، في بداية توليه السلطة، لم تقبل بها إسرائيل، بالرغم من أنها تضمنت عرض سلام نهائي ومغرياً. وعرف عن بن غوريون قوله إنه من الاستحالة القبول بـ%6 أو %10 من أرض فلسطين لإقامة دولة عليها، وكانت تلك بداية التطهير العرقي الفعلي، بالشراء أو الطرد أو القتل والمصادرة.
أحمد الصراف
التعليقات