لماذا أفَلت شمس المعارف الصوفيّة في العالم العربي؟ المسألة لا علاقة لها بشروق شمس العقل، أو اليقظة العقلانية، فهذا التصوّر خطأ تحليلي وزلل فكري. البرهان هو أن الثقافة العربية لم تعرف ولا حتى فيلسوفاً واحداً بعد ابن رشد، أي طوال ثمانية قرون، وهو دهر طويل ثقيل. في القرن العشرين كان لنا عدد كبير من أساتذة الفلسفة، ولم يكن لنا فلاسفة. الغريب أن أهمّ من عكفوا على دراسة التصوف العربي، كانوا مستشرقين، من بينهم لويس ماسينيون، رينولد نيكولسون، أسين بلاثيوس، آن ماري شيمل، وغيرهم. هؤلاء أدركوا أن البحوث والدراسات في العرفان الإسلامي ستكون غير وفيّة للحضارة الإسلامية، إذا استغني عن اللغة الفارسية، التي كتبت بها النسبة الغالبة من الأدب الصوفي، أي الإبداع الأدبي شعراً بخاصة: جلال الدين الرومي (70 ألف بيت)، فريد الدين العطار (ملحمة منطق الطير)، سنائي والعشرات غيرهم.
يجب أن نقلق فكريّاً، لغياب عنصرين مهمّين، في ثقافتنا المعاصرة: الفلسفة والتصوف. لقد كان للعرفاء موقف سلبي إزاء الفلسفة والعقل. كانوا يرون العقل عاجزاً عن الوصول إلى ما وراء المادّة، وأن الروح هي النور القادر على رؤية التجليات. يقول جلال الدين: «في يد الأعمى، العصا أولى من القنديل»، أي: «في يد العقل، الأشياء الملموسة أهمّ من المصباح».
يغدو القلق غمّ الليل وهمّ النهار، إذا أضفنا معضلة المسافة التي تفصل العالم العربي عن الخطوط الأمامية على صعيد التقدم العلمي، في الرياضيات والفيزياء والأحياء. لا شك في أن وقوع عدد من البلدان العربية في عداد الدول الفاشلة يلعب دوراً في غاية الخطورة والسلبية، إلا أن التذرّع بهذه التعلّة لا يكفي للإقناع. على مفكرينا بحث غياب الفلسفة والتصوف والعلوم والبحث العلمي، والعجز عن تطوير التعليم والوقوف متفرجين أمام الأدواء المحدقة بلغتنا، وتدهور فنوننا، فهذه باقة أشواك في حزمة واحدة.
من الضروري أن يعكف الباحثون على التداعيات المشتركة وأشكال العدوى المتبادلة، بين تلك المحاور. مثلاً: منذ اليونان القديمة إلى ألمانيا التاريخ الحديث، كانت الفلسفة والرياضيات والموسيقى حلقات متصلة. المعروف هو أن الفلسفة أمّ العلوم. إذا حسبنا أن التصوف تجاوزه الزمن، فإن الواقع يفنّد هذا الظن. في البلدان المتقدمة في الفلسفة والعلوم البحتة والتطبيقية تظهر باستمرار كشوف عرفانية جديدة، تربط التصوف بعلم النفس والفيزياء والماورائيات والرياضات الروحية، في قارات عدّة، من أوروبا وأمريكا الشمالية، إلى الصين، اليابان، الهند.
لزوم ما يلزم: النتيجة الشوقيّة: لماذا نحن مختلفون داراً؟
التعليقات