فشلت مساعي الوسطاء الدوليّين في جذب "حزب الله" الى مائدة "التسوية الدبلوماسية" بهدف احتواء نهائي للتصعيد المستمر على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية، لأنّ الحزب مصرّ على التعامل مع التحذيرات التي تنقل إليه، سواء عبر القنوات المعتمدة أو عبر الإعلام أو عبر أجهزة المخابرات، على قاعدة أنّها مجرد تهويل هدفه إعطاء الإسرائيلي بالدبلوماسية ما لا يمكن أن ينجزه بالحرب.
وبات واضحاً أنّ "حزب الله" لن يعطي للوسطاء ما يمكن أن يريح إسرائيل، وهو لا يزال عند مستوى العرض الذي سبق أن قدمه في الأشهر الأولى التي أعقبت فتح جبهة الجنوب اللبناني: نعود الى الهدوء عندما توقف إسرائيل حربها على قطاع غزة! بالنسبة للوسطاء هذا لا يكفي. على الحزب حتى يجنّب المنطقة حرباً مدمّرة جديدة أو أقلّه من أجل عدم إبقاء لبنان وإسرائيل في حالة حرب نشطة حتى إشعار آخر، بكل ما تحمله هذه الوضعية من أخطار وخسائر، أن يقدّم للحكومة الإسرائيلية ما يدفعها الى إسقاط احتمال العملية الهجومية الواسعة، بصورة نهائية، من "أجندتها".
ولكنّ الحزب لن يفعل ذلك، بموجب المعطيات المتوافرة حتى تاريخه. ويبدو "حزب الله" على قناعة شبه مطلقة بأنّ إسرائيل لو كانت قادرة على شنّ حرب شاملة ضده في لبنان، لكانت فعلت ذلك، في وقت سابق، وبالتالي ما عجزت عنه، في المراحل السابقة، لن يكون بمتناولها في الفترة المقبلة. ويستند "حزب الله" في تقييمه هذا الى متابعة دقيقة للوضع في إسرائيل، ولما يحصل داخل المؤسسة العسكرية، ولأحوال غزة والضفة الغربية و"عرب 48".
بالنسبة للحزب، فإنّ التنظيمات الفلسطينية في قطاع غزة انتقلت من الدفاع الى حرب العصابات، وتحوّلت، بشكل كامل الى عمليات المقاومة، وهي بذلك قادرة على استنزاف عديد الجيش الإسرائيلي وعدّته. وفي الضفة الغربية تتأهب هذه التنظيمات نحو مراحل جديدة من المواجهة المكلفة لإسرائيل، فيما تمّ ايقاظ "الخلايا النائمة" ضمن "عرب 48" على أن يكثفوا عملياتهم ضد العسكريين الإسرائيليين أينما عثروا عليهم. ويعتبر الحزب أنّ الحكومة الإسرائيلية تعاني من خصومات سياسية كفيلة بإسقاطها، في أي لحظة، وسط تنامي في حالة التململ الشعبي التي يعبّر عنها النمو الهائل في المظاهرات المعارضة ونسبة المشاركين فيها وتطوّر الشعارات التي ترفعها. ويرى "حزب الله" إرهاقاً كبيراً أصاب الجيش الإسرائيلي الذي اعتاد أن يخوض حروباً خاطفة، وها هو عاجز عن إعادة جنود الاحتياط الى أعمالهم وعائلاتهم، حتى بعد انتهاء تسعة أشهر من الاستدعاء. ويتلمّس الحزب، في المناظرات التي تحفل بها وسائل الإعلام العبرية، وجود مخاوف إسرائيلية كبيرة من أيّ مواجهة شاملة مع "حزب الله"، فالجبهة الداخلية لا تظهر أنّها قادرة على احتواء ما سوف يصيبها من خسائر من جرّاء حرب مماثلة، في ظل عدم ثقة لدى مختلف المحللين الاستراتيجيين بإمكان أن يحقق الجيش أيّ أهداف نوعية من حرب شاملة، وسط مخاوف من أن يخسر القدرة على التحكم بمستوى الحرب وزمنها، وتوافر قناعة عامة في إسرائيل بأنّ أي حرب ضد لبنان سوف تنتهي الى إعادة إحياء القرار 1701 لا أكثر ولا أقل! وثمة في إسرائيل من يساعد حزب الله" على زيادة منسوب الثقة بنفسه والتبخيس بقدرات عدوّه، فدعاة الحرب الشاملة عليه، وهم من كارهي فكرة حل الصراع على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية بواسطة المساعي الدبلوماسية، "يكبّرون الخسّة في رأسه" - كما يقول المثل اللبناني عمّن يصيبه انتفاخ في الأنا - بحيث يشير هؤلاء إلى أنّ الحزب أسقط "غطرسات" جنرالات إسرائيل الذين كانوا يعتبرون أنّ ترسانة "المقاومة الإسلامية في لبنان" ستعجز عن القيام بأي خطوات مقلقة، على اعتبار أنّه سيصار الى تدميرها في الأيّام الأولى من أي مواجهة مع الحزب، ولكنّ الميدان أكد خدعة هؤلاء لأنفسهم وللإسرائيليين، إذ إنّه يمكن لـ"حزب الله" أن "يدّعي إنجازات مثيرة للإعجاب: فقد وضع مرتفعات الجولان في نطاق الصراع المباشر مع لبنان. لقد أنشأ منطقة أمنية في أراضينا بينما يحدد حالياً القتال في أراضينا. لقد ألحق أضراراً ودمر أصولاً ثمينة لإسرائيل على المستويين العسكري والمدني. ولأول مرة منذ 76 عاماً، خلق لاجئين بين مواطني إسرائيل".
بطبيعة الحال يعكس هذا التوصيف حقائق الميدان، ولكنّ هدف التركيز عليه هو النيل ممّن يعتبرون أنّ احتواء أخطار "حزب الله" لا يحتاج الى حرب، بل يمكن إيجاد حلول لها، بسرعة وبهدوء، لأنّها "سهلة الاحتواء". الوسطاء الدوليّون محبطون من "ثقة" حزب الله بتقييماته المعاكسة لمعلوماتهم. هم يعتبرون أنّه بذلك يضع لبنان في فوهة المدفع. وهم مستاؤون من المحللين الاستراتيجيين الإسرائيليين الذين يهدفون من وراء سلوكهم التضخيمي لإنجازات "حزب الله" الى عرقلة المساعي الدبلوماسية التي يعارضونها، منذ اليوم الأوّل. وعليه، ينتظر الوسطاء إشارات أقوى من الميدان، حتى يعودوا الى تحرّك منتج لمفاعليه، وهذا يعني أنّ المقبل من الأسابيع قد يشهد واحداً من أخطر النماذج التي تؤكد لـ"حزب الله" أنّ التحذير من الحرب ليس تهويلاً دبلوماسيّاً.
وعليه، ثمّة بحث في التاريخ الأنسب لتجسيد هذا النموذج الخطر: بعد زيارة بنيامين نتنياهو بدعوة من الكونغرس؟ قبل هذه الزيارة، حتى تكون الجبهة اللبنانية حاضرة بقوة في جدول الأعمال؟ مع اتضاح المداولات في مجلس الأمن الدولي حول شروط تمديد ولاية اليونيفيل لسنة إضافية في جنوب لبنان، بموجب القرار 1701؟ أو قبل ذلك؟ في الجنوب اللبناني، للمرة الأولى لا تتقاطع مخاوف السكان مع تطمينات "حزب الله". اسألوا أهل صور كيف انتقلوا من حال مفعمة بالاطمئنان الى حالة يكبر فيها القلق من الآتي! إسألوا أهالي جزين وصيدا الذين بدأوا يدفعون ثمن الغارات الإسرائيلية الوهمية من ممتلكاتهم!
التعليقات