استطاعت فرنسا خلال أسبوع من «الاستنفار المفعم بالذعر» أن تحوّل «المستحيل» إلى «ممكن»، لكن رغم أهمية هذا الممكن فإنه مفعم ب «ضبابية» غير مسبوقة في مقدورها أن تضع فرنسا كلها على «صفيح ساخن من لهيب عدم الاستقرار السياسي» في ظل أجواء «الصدمة المرتدة» التي تعيشها منذ لحظة إعلان نتائج جولة الانتخابات التشريعية الثانية التي أجريت يوم الأحد الماضي.

فالنتائج المذهلة التي فرضتها جولة الانتخابات التشريعية الأولى للبرلمان الفرنسي التي أجريت يوم الأحد (30 يونيو/ حزيران الماضي) والتي حقق فيها اليمين الفرنسي المتطرف بقيادة «التجمع الوطني» الذي تتزعمه مارين لوبان، المنافس الشرس للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فوزاً «لم يتصوره أحد». كانت صدمة قاسية للفرنسيين الذين هالهم غموض غير مسبوق لما يمكن أن تعيشه فرنسا في ظل حكم هذا اليمين المتطرف.

في هذه الجولة الأولى حصل «التجمع الوطني» اليميني المتطرف وحلفاؤه على 33,4% من الأصوات، وجاء «تحالف اليسار» الذي يضم أحزاب: الاشتراكي والشيوعي وفرنسا الأبية والخضر في المرتبة الثانية حيث حصل على 27,99% من الأصوات، وجاء في المرتبة الثالثة معسكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأصوات لم تتجاوز 21,04% في رد شديد القسوة من الشعب الفرنسي على قرارات «التفرد»، وسياسة احتكار الرأي التي استحكمت بالرئيس الفرنسي وجعلته يتحدى بشكل سافر إرادة الناخبين الفرنسيين، كما عبروا عنها في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت يوم الأحد (9 مايو/ أيار الماضي). لم يتحمل ماكرون الفوز الذي حققه اليمين المتطرف في هذه الانتخابات وقرر في 12 مايو/ أيار الماضي حل الجمعية الوطنية (البرلمان) وإجراء انتخابات مبكرة جرت جولتها الأولى يوم 30 يونيو/ حزيران 2024 وجرت جولتها الثانية في 7 يوليو/ تموز 2024.

نستطيع أن نقول إن تصويت الناخبين الفرنسيين في جولة الانتخابات الأولى كان «تصويتاً عقابياً» للرئيس الفرنسي الذي لم يستطع التوقف عن ممارسة سياسته التقليدية.

أما في جولة الانتخابات التشريعية الثانية التي أجريت يوم الأحد الماضي، أي بعد أسبوع واحد من تصويت الجولة الأولى فجاءت الصدمة الثانية «المرتدة» لمواجهة خطر اختطاف اليمين الفرنسي المتطرف تحت قيادة «التجمع الوطني» لفرنسا. فقد فوجئ الفرنسيون أن «تصويتهم الانتقامي» ضد ماكرون وسياساته سيكون تأثيره العقابي لفرنسا أكثر منه لشخص ماكرون الذي تأكد أنه لم يفكر، و«لو للحظة» في خيار الاستقالة رداً على معاقبة الشعب لحزبه وتكتله الانتخابي في جولة الانتخابات الأولى.

فقد جاءت جولة الانتخابات التشريعية الثانية بمثابة «معركة إنقاذ فرنسا» في صدمة مرتدة لم تعد نتائجها على إدارة الدولة والحكومة الجديدة مفعمة بالغموض من ناحية، ومتوقفة من ناحية أخرى على جدارة تكتل اليسار الذي جاء في المرتبة الأولى في تلك الجولة ومحافظته على تكتل «الجبهة الشعبية الجديدة». فالتصويت الشعبي في الجولة الثانية قال «لا» لكل من الطرفين المتصارعين على السلطة بمنظور «الاحتكار» وهما الرئيس إيمانويل ماكرون وتكتله الانتخابي ولليمين المتطرف (التجمع الوطني) وزعيمته مارين لوبان، واختار الشعب تكتل اليسار الفرنسي الذي جاء في المرتبة الأولى وحصل على 182 مقعداً في البرلمان، وجاء بعده تكتل الرئيس الفرنسي (الوسط) الذي حصل على 168 مقعداً، وجاء التجمع الوطني اليميني المتطرف في المرتبة الثالثة وحصل على 143 مقعداً.

وهنا كانت «الصدمة المرتدة» في وجه هذا اليمين المتطرف من ناحية وفي وجه الرئيس الفرنسي من ناحية ثانية، فقد أرجئ طموح امتلاك القرار السياسي الفرنسي واحتكاره لليمين المتطرف إلى مرحلة أخرى، ودخلت فرنسا معترك صراع سياسي من نوع جديد بين ثلاث كتل متصارعة لم يحصل أي منها على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية (289 مقعداً في البرلمان) كي يستطيع تشكيل الحكومة، ومن ثم فقد الرئيس الفرنسي سلطته المطلقة في تشكيل الحكومة، على نحو ما كان يفعل، وأضحى محكوماً للتوازنات والتحالفات المحتملة بين أي من هذه الكتل لتشكيل الحكومة بعد أن انتقل القرار من الإليزيه (الرئاسة) إلى البرلمان، وباتت كل الرهانات منعقدة على قرار اليسار الفرنسي وشروطه لتحالف صعب مع تكتل ماكرون، لكن الرهان الأكبر يتوقف على قدرة تحالف اليسار تحت راية «الجبهة الشعبية الجديدة» الحيلولة دون اختراقه من جانب الرئيس ماكرون، الذي لم يعد له خيار بديل إلا تفكيك تحالف الجبهة الشعبية لعزل حزب «فرنسا الأبية» وزعيمها جان لوك ميلانشون الذى يتهم بالتطرف، والمتطلع إلى رئاسة الحكومة الجديدة، والتحالف مع الأطراف الثلاثة الأخرى: الاشتراكيون والشيوعيون والخضر، كي يظل قادراً على مواصلة الحكم حتى نهاية عهده بعد عامين.