قرأ مكسيم غوركي لمواطنه ومُلّهمه ليف تولستوي قصتّه «الثور». حين انتهى غوركي من القراءة ضحك تولستوي كثيراً، وأشاد بمعرفة غوركي ب «ألاعيب اللغة»، قبل أن يقول له، ربما مستدركاً: «لكنك لا تتقن استعمال الكلمات»، وأعطاه مثالاً على ذلك: «كلّ فلاحيك يتكلمون بذكاء، علماً أنهم في الحياة يتكلمون بغباء وسخف، ولا تفهم للوهلة الأولى ما يريدون قوله».
ما من استعلاء على الفلاحين في وصف تولستوي بكلامهم بالغباء والسخف، وهو المعروف بنصرته للضعفاء وقربه منهم. ما أراد إيصاله لغوركي يتصل بفنّ الكتابة. على الكاتب أن يتقمص دور شخصياته، فلا يجعل الفلاح يتحدث بلغة أستاذ في الجامعة مثلاً. وسندرك ذلك حين نقرأ الشرح الذي جاء على لسان تولستوي وهو يتحدث عن «كلام الفلاحين».
برأيه يتعمّد الفلاحون قول كلام لا يفهمه الآخرون لأولّ وهلة، لأن خلف كلماتهم تختفي دائماً رغبتهم في إفساح المجال للآخرين للإفصاح عن رأيهم. يمكننا صوغ مراد تولستوي في القول التالي: «إنهم ليسوا أغبياء لكنّهم يتعمدون التظاهر بالغباء»، لأن «الفلاح الجيد، والقول الآن لتولستوي نفسه، لا يكشف أبداً عن ذكائه منذ اللحظة الأولى لأن ذلك ليس في صالحه. إنه يعرف أن الغبي يُعامل ببساطة وصراحة وهذا ما يلزمه».
قول تولستوي هذا آتٍ من خبرةٍ ومعرفة، وليس كلاماً مرسلاً، فبحكم قربه من بيئة هؤلاء الفلاحين أصبح خبيراً في ما يمكن أن ندعوه سيكولوجيتهم، التي تُفصح عنها طريقتهم في الكلام واختيار المفردات، فالفلاح حين يتظاهر بالبساطة أو الغباء في الحديث يجعل من يُحدّثه يقف أمامه مكشوفاً، فيرى هو، أي الفلاح، كلّ أماكن الضعف فيه. وربما انطوت بعض أقوال تولستوي عن الفلاحين على مبالغةٍ ما، خاصة حين قال: إنّ الفلاح، لا يثق بأحد، «ويخشى أن يفشي بأفكاره المكنونة حتى لزوجته». ومرة أخرى نقول: لم تكن غاية تولستوي تشخيص نفسيّة الفلاح، وإنما إفهام غوركي أنّ عليه، حين يكتب أدباً، أن يضع على لسان شخصياته الكلام المعتاد منهم، لا الكلام الآتي من مخزون ثقافة الكاتب.
قال تولستوي وهو يعقد المقارنة بين ما قاله عن كلام الفلاح في الواقع المتسم بالغموض والمواربة والتظاهر بالجهل، وما قرأه في قصة غوركي على لسان هذا الفلاح: «عندك كل شيء ظاهر للعيان.. وفي كل قصصك نشاهد مجلساً للأذكياء وكأنهم يستخدمون الأقوال المأثورة.. إنك تُزيّن كل شيء، الناس والطبيعة.. خاصةً الناس».
تنبيه، أو بالأحرى تحذير آخر، وجّهه تولستوي لغوركي بتجنب تكرار أساليب بعض الكتّاب المنمقة التي يمقتها الناس، وفي تلخيص لهذا نصح غوركي بالتالي: «لا تنصع لتأثير أحد، ولا تخش أحداً، وآنئذ سيغدو كل شيء حسناً».
التعليقات