التدقيق في خريطة الانتشار السوري يكشف الهموم الأساسية، التي ترزح تحتها غالبية السوريين، وأبرزها تقع تحت أربعة عناوين، أولها السعي إلى السلامة والأمن، والثاني تلبية احتياجات العيش الأساسية من عمل وسكن وغذاء وطبابة، والثالث الوصول إلى حل للقضية السورية، وإنهاء معاناتهم، وإعادة بناء بلدهم وحياتهم بما ينسجم مع طموحاتهم من جهة وتضحياتهم الهائلة، ورابع العناوين يتضمن معالجة ملفات ملحة، تتصل بأغلب السوريين، وأبرزها ملف المعتقلين والمختفين قسراً والكشف عن مصيرهم، وملف اللاجئين والمهجرين الذين ينبغي أن يعودوا إلى بيوتهم وممتلكاتهم وأماكن عيشهم الأساسية، وتشكل معالجة كل هذه الأمور مدخلاً لأي عملية سياسية تتعلق بمستقبل سوريا.

ويحتل الداخل السوري الحيز العددي الأهم في خريطة الانتشار السوري رغم الهجرة الكثيفة التي حصلت في سنوات العقد الماضي، وتقاسم سيطرة ثلاث من سلطات الأمر الواقع السيطرة عليه بدعم ومساندة قوى دولية وإقليمية. حيث تدعم إيران وروسيا النظام السوري في القسم الرئيس من الداخل، وتدعم الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بمشاركة بعض القوى السياسية والعشائرية المحلية، فيما تدعم تركيا منطقة شمال غرب سوريا، وتتشارك السيطرة فيها الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني وحكومة الإنقاذ التابعة لـ«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً).

ويعكس تقاسم سيطرة قوى الأمر الواقع ما عاشه سكان الداخل من صراع على امتداد 12 عاماً مضت، ورغم توقف العمليات العسكرية بين الأطراف منذ سنوات، فإن معارك واشتباكات تندلع بأي وقت على خطوط المواجهة وعبرها، كما يحصل بين الإدارة الذاتية ومناطق السيطرة التركية في عمليات، لا تصيب الأهداف العسكرية فقط، بل أهدافاً مدنية، بما فيها أسواق ومدارس ومناطق سكنية في شمال شرقي وغربي سوريا على السواء، وتتكرر كلها في هجمات جوية، تقوم بها القوات الروسية في شمال غربي سوريا، كما تحصل أحياناً اشتباكات على خطوط التماس بمشاركة الإيرانيين بين مناطق النظام ومناطق السيطرة التركية.

ولا تمثل المعارك والاشتباكات البينية إلا بعض ما يثير هواجس السلامة والأمن لدى السوريين في الداخل. بل تضاف إليها أعمال إجرامية، تحصل في كل المناطق بواسطة أطراف، بينها قوى سيطرة الأمر الواقع من جماعات مسلحة وأجهزة مخابرات، تقوم بعمليات خطف واعتقال واغتيال وقتل تحت التعذيب، لا نواظم لها وفيها سوى الإرهاب وإخفاء الآخرين وإشاعة الفوضى، وتجاوزت الأعمال الإجرامية الأهداف التقليدية، واستهدفت أحياناً بشكل مكشوف أركاناً وشخصيات معروفة في سلطات الأمر الواقع، والأمثلة كثيرة.

ولا يقتصر الانشغال بهواجس السلامة والأمن على السوريين في الداخل، بل هو ممتد إلى الدول المحيطة بسوريا، وخاصة تركيا ولبنان، حيث فيهما أكبر عدد من السوريين في الشتات، ويعيش في الأولى نحو 3.5، ويقيم في الثانية نحو 1.5 مليون نسمة، وتم تصعيد النزعات العنصرية في البلدين ضد السوريين في السنوات الأخيرة، واتخذت أشكالاً عنيفة خارج القانون، هددت بصورة مباشرة وغير مباشرة حياة السوريين، لما تضمنته من قتل واختطاف واعتقال وترحيل وتدمير ممتلكات، وأضافت إليها السلطات اللبنانية تسليم لاجئين مطلوبين للنظام السوري. إن الأسوأ في ما عاشه، ويعيشه السوريون في تركيا ولبنان، هو تحويل موضوع اللاجئين السوريين في البلدين إلى قضية متصلة بالسياسة الداخلية وصراعات الجماعات السياسية والسلطة على كسب الأصوات الانتخابية.

ولئن كانت هواجس السلامة والأمن شديدة على السوريين في الداخل، فإنها أكثر شدة في لبنان وتركيا. ففي الداخل، كانت هناك خيارات متصلة بالظروف والقدرات، تتراوح ما بين الانتقال بين المناطق والهجرة للخارج، إضافة إلى مسايرة قوى الأمر الواقع ومنظوماتها العسكرية والأمنية تأميناً على الأرواح والممتلكات، وكلها أمور غير ممكنة تقريباً في الحالة الثانية، ليس فقط بسبب محدودية قدرات اللاجئين وهشاشة وضعهم في البلدين، وحجم وإمكانات قوى التهديد ووحشيتها، التي ليس من سبيل لمقاومتها أو مسايرتها، ما جعل السوريين في البلدين يسعون للخلاص من التهديدات والجرائم، ولو بالعودة إلى الداخل، الذي يحمل في جانب منه إمكانية الاعتقال.

مأساوية الواقع المحيط بالسوريين في الداخل ودول الجوار لم يحظَ بقدر مناسب من اهتمام المؤثرين في الملف السوري من دول وكيانات وشخصيات من المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وكأن ما يحدث يتصل بعالم آخر غير الذي نعيش فيه، وخارج شعارات وقيم الحرية والحق والعدالة وحقوق الإنسان وقوانين حماية اللاجئين. والسؤال الأساسي: ما هي الأسباب التي جعلت الموقف يصير على هذا النحو؟ هل هي اللامبالاة، أو العجز، أو الموافقة على ما يحدث، أو غير ما تقدم كله؟