في منتصف التسعينيات كنتُ محظوظاً بخوض تجربة في مجال الصحافة الساخرة في الأردن، وهي لون من الصحافة أنتجته فورةُ صحافة الأسبوعيات في ذلك الوقت. وأعترف الآن بعد مرور كل هذا الوقت أنها فن صعب بالغ الحِرفية، وربما لهذا السبب لم أصمد فيه طويلاً. الصحافة الساخرة فن صعبٌ ورفيعُ المستوى، وهناك خط فاصل بينها وبين «المسخرة العبثية» التي لا يمكن أن تكون مطلقاً ضمن فنون الصحافة الساخرة والأدب الساخر، وذلك الخط الفاصل بين الاثنين يدركه القارئ الذكي إدراكاً واضحاً.

تاريخياً، كانت الصحافة الساخرة في العالم العربي متوازية مع نشوء الصحافة نفسها، وكانت هناك صحف ساخرة متخصصة هدفها الهروب من مقص الرقيب عبر الترميز والسخرية والنكتة اللاذعة التي يكون صداها أكبر من النقد المباشر وتلقيها أقرب إلى القلب لطرافتها وخفة ظلها على من تستهدفهم في السلطة والحكم. والنكتة، أيُّ نكتة على العموم، هي انعكاس لواقع مبكي، وكلما زادت كمية الضحك في النكتة كانت المفارقة فيها واسعة أمام الواقع.

والنكتة السياسية خصوصاً كانت على الدوام تعبيراً ذكياً عن العتب أو الرفض، كما كانت نوعاً من أنواع الوعي المُقنّع. لكن، هل يحتاج الوعي إلى أقنعة ليعبر عن ذاته؟ وما جدوى السخرية في واقع العالم العربي، وفي واقع العالم عموماً وإعلامه الذي ليس إلا سكتشات كوميدية مفرطة الفانتازيا، حتى أن نشرة الأخبار أحيانا في بعض المحطات التلفزيونية يمكن تصنيفها ضمن صناعة الترفيه بلا أدنى تردد؟!

في زمن ما قبل الفضائيات، وثورة تكنولوجيا المعلومات، وصناعة اليوتيوب التي تحولت إلى ظاهرة خرافية.. كانت الكتابة الساخرة في الصحافة والأدب والمسرح والسينما والتلفزيون.. إلخ، نافذة للتنفيس غالباً وللاحتجاج الضمني أحياناً.

لم تكن أدوات الكتابة مدعومة بتقنيات الجرافيك والصورة والمؤثرات البصرية، ولا بأرشيف صوتي أو بصري سهل التناول.. بل كانت الكتابة الساخرة حفراً شاقاً في صخر الواقع للخروج بمفارقات مضحكة ومبكية في نفس الوقت. كانت مضحكة لأن الواقع كان مبالِغاً في قسوته.

والسخرية أدب مستقل بحد ذاته منذ زمن طويل ربما يسبق «البخلاء» للجاحظ و«المستطرف في كل فن مستظرف» للأبشيهي.. وقد أنتج فنَّ الصحافة الساخرة التي كانت منذ بداية الطباعة في مصر لها حضورها عبر مجلات وصحف ساخرة متخصصة، وأنتجت فيما بعد كتَّاباً ساخرين في العالم العربي، كان حضورهم بين القراء قوياً، وربما كان لهم حضورهم أيضاً في السجون «الثورية التقدمية»، حتى أن شهادات من مراحل سابقة أثبتت وجود أقسام رسمية متخصصة في رصد النكتة في الشارع وتحليلها لقياس ومعرفة اتجاه الشارع ونبضه، خصوصاً في أوساط الشعوب سادة السخرية والأقدر على خلق النكتة اللاذعة ببداهة وذكاء. مواجهة تلك السخرية كانت على الدوام عملية مستمرة ووظيفة مهمة بالنسبة لبعض الجهات التي تفْرط في جديتها حتى أمام النكتة.. لكن من يستطيع أن يوقف النكتةَ إذا انطلقت؟