العملية التي نفَّذتها إسرائيل في الحديدة التي أُطلق عليها «اليد الطويلة» لم تكن سوى ردة فعل تجاه سلوك ميليشيا الحوثي الذي يحاول تنفيذ أجندة واضحة لتأجيج المنطقة والتلبيس بشكل الدولة ومحاولة كسب أوراق تفاوضية، وهو الفخ الذي وقع فيه التحالف الأميركي - البريطاني ولم يحقق سوى تغول الميليشيا خارج نطاق نفوذها ومحاولة كسبها شعبية مبنيّة على مقارعة الدول الغربية، وهو ما سيكون أشبه بهدية على طبق مع الاستهداف الإسرائيلي لمدينة كانت تاريخياً بوابة العبور للهوية اليمنية المتعالية على الطائفية.
سرعان ما عكس الموقف السعودي منطق الدولة وعقلانية مقاربة الملف اليمني، بوصفه أزمة معقَّدة لا يمكن التعامل معها بطريقة «ردة الفعل» من دون معالجة جذور المشكلة التي تعود إلى ما قبل ظهور الحوثيين، ولذا كان القلق الذي أبدته السعودية موقفاً متوازناً بسبب ما جاء في بيانها الذي أكد موقفها الثابت المتكرر أن أي مقاربة مجزأة لليمن لا تنظر إلى الصورة الكلية لما حدث يوم السبت، ليست سوى مضاعفة لحدة التوتر في المنطقة وتعقيد وإضرار بكل الجهود المضنية التي تبذلها دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية لإنهاء حرب غزة والنأي بالمنطقة وشعوبها عن مخاطر الحروب والأزمات، وبشكل خاص كما ذكر بيان الخارجية المسؤول والواضح، ضرورة دعم جهود السلام في اليمن وتجنيب شعبه مزيداً من المعاناة.
هذه الضربات أعطت ذريعة لمشروع إيران ووكلائها بعيداً عن معضلة غزة لإعلاء منطق الشعبوية والشعارات، وهو ما حدث عقب الضربة مباشرةً باستهداف مناطق متعددة من اليمن والجرائم المروعة في عمران وصنعاء ومناطق أخرى لميليشيا الحوثي، مع فشلها رغم كل الادعاءات في التعامل مع مخلفات الضربة الإسرائيلية للبنية التحتية لليمن وما خلفته من حرائق لم يجرِ التعامل معها إلا بتغريدات من زعيم الميليشيا، يعبر فيها عن سعادته بأن ما حدث جعلهم على خط المواجهة مع إسرائيل، بينما سيكون على الشرعية وأيضاً على الأطراف السياسية في اليمن عبء إدارة الأزمة على مستوى إعادة موضعة معاناة اليمنيين واختطاف الميليشيا للدولة والحيلولة دون مزيد من الاستثمار في الشعارات التي تحاول استغلال قضية غزة لتعزيز مكانة الميليشيا ومشاريع التعبئة والمضي في تعطيل الملاحة والممرات المائية للاقتصاد الدولي.
المكابرة من ميليشيا الحوثي، كما هو الحال مع الكيان الإسرائيلي الذي يصر على ترحيل مشكلة غزة وتوسيع نطاق تأثيراتها، ليست سوى تأزيم للمنطقة وعسكرتها وفك الضغط عن طهران التي تدرك حجم هذه المخاطر وتصر على تجنيب التصعيد بفك الارتباط المعلن والاستثمار في الأذرع وربما عدم الاكتراث لفقدانها.
انهيار اليمن لا يعني فقط تضخم ميليشيا الحوثي، بل تصاعد حضور «القاعدة» و«داعش» وظهور تنظيمات مسلحة جديدة في بلد مفكك ومسلح بنحو 60 مليون قطعة سلاح ويفتقر إلى الحد الأدنى من ملامح الدولة، وهذا ما عكسه ارتباك مواقف الأطراف السياسية اليمنية تجاه هذا الاستهداف ونظرائه بين الرغبة في التخلص من تغول ميليشيا الحوثي والخوف من استثمار استهدافها لزيادة شعبيتها. «اليد الطويلة» لإسرائيل أصابت اليمن ولم تُصِب الميليشيا، وربما أسهمت في ردود أفعال تعزز مشروعها في السيطرة على الممرات التجارية والقيام بمزيد من الحماقات التي سرعان ما تظهر آثارها على أهل اليمن، من طوابير طويلة عند المحطات إلى إغلاق معظم محطات تعبئة الوقود وأزمة خانقة في الوقود وأسطوانات الغاز ونزوح الأهالي إلى مناطق خارج الحديدة خوفاً من الاستهداف مجدداً.
ديفيد شيكنر المستشار السابق بوزارة الدفاع الأميركية والخبير في ملف دول الشرق الأوسط، نصح إدارة بايدن بمقاربة جديدة وخطة بديلة لليمن، خلاصتها أن ميليشيا الحوثي مصرّة على الخيار الحربي والعسكري وأنها غير قابلة للتفاوض، بل على العكس تسعى إلى الذهاب بعيداً في الاستحواذ على الحالة اليمنية وتدمير اليمن مقابل بناء دولة راديكالية تتجاوز بها حتى تجربة «حزب الله»، الدولة داخل الدولة، وأسوأ حتى من تجربة أفغانستان وأخطر في اليمن، لأن ذلك أيضاً يعني عرقلة أكثر من 6 ملايين برميل نفط والمنتجات النفطية من المرور للعالم. وما قاله الباحث لبايدن يجب أن يقال لكل الدول التي لا تستمع لمنطق الدولة الذي تصر عليه السعودية وهو ضرورة التفكير لإنقاذ اليمن عبر خدمته للتعافي وليس استخدامه.
التعليقات