هل يمكن الجزائر أن تتوصل إلى حلّ جذري لمشكلة الهجرة وملف "الذاكرة التاريخية" في ظل حكم اليسار الفرنسي، إذا تمكن من تشكيل الحكومة، أم أن لا فرق بين اليمين المتطرّف وتيار الوسط من جهة، وبين هذا اليسار من جهة أخرى، عندما يتعلق الأمر بمصالح الدولة الفرنسية العليا؟

وماذا يعني للسلطات الجزائرية نشر فرنسا مؤخّراً ستّة مراسيم تطبيقية جديدة خاصة بالهجرة، يُنتظر أن تطبق قريباً، وفق إجراءات صارمة ضدّ المهاجرين الأجانب المقيمين على الأراضي الفرنسية، ومنهم جزائريون يعدّون بالآلاف؟

وهل يمكن أن يقبل اليسار الفرنسي، مثلاً، بترحيل عناصر معينة ومعروفة من المعارضة الجزائرية، التي تحصّلت من أجهزة الدولة الفرنسية على اللجوء السياسي الموقت أو النهائي، وبخاصة المجموعة التي ما فتئت تقود حملات الدعوة إلى انفصال منطقة القبائل؟

بخصوص السؤال الأول، فإن التجربة علّمت الجزائريين أن اليسار السياسي الفرنسي يعطي مصالح الدولة الفرنسية الأولوية، وأنه كثيراً ما تنزّه على أوضاع الجالية الجزائرية، حيث لم يفعل شيئاً ذا بال لمحاربة التمييز العنصري داخل مؤسسات العمل التي يعمل فيها أكثر من مليون عامل جزائري. وزيادة على ذلك، فإنه لم يؤسس في إطار الأحزاب التي أنشأها وينشط تحت لوائها أية مؤسسات نقابية فاعلة ومؤثرة، بإشراك مئات الآلاف من ممثلي العمال الجزائريين الذين لم يحصلوا بعد على الجنسية الفرنسية.

كما أن فسيفساء هذا اليسار السياسي، الذي يتميز دائماً عن اليسار الفكري الفرنسي المعتدل تجاه الأجانب وقضايا العالم الثالث، لم يفعل شيئاً بخصوص مطالب الجزائر ذات الصلة بإعادة أرشيف الثورة التحريرية والحرب الفرنسية إلى الدولة الجزائرية.

وأكثر من ذلك، فإن فسيفساء اليسار الفرنسي لم يدافع باستماتة، وعبر فرنسا الشعبية العميقة، عن حق الشعب الجزائري في نيل حق التعويض عن الجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي الاستعماري، والمتمثلة في قتل المواطنين ونهب ثروات الجزائر المستعمرة، ونفي مئات الجزائريين إلى "كاليدونيا الجديدة" بأوقيانوسيا و"كايين" في أميركا اللاتينية، فضلاً عن جرائم الاغتصاب الجنسي للنساء الجزائريات.

ومن علامات الخيبة في الوقت الراهن، أنه منذ مدة قصيرة، أعلن المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا، المكلّف من طرف قصر الإليزيه تمثيل فرنسا في الحوار الدائر ببطء شديد حول ملف "الذاكرة" مع الجانب الجزائري، عن قلقه من تضاؤل حظوظ التوصل إلى حل عاجل لأمهات المشاكل العالقة ذات الصلة بملف هذه "الذاكرة التاريخية"، التي تعني في الواقع الملف الخاص بمجازر الحرب الفرنسية في الجزائر، وما تخلّلها من قتل ونفي لأكثر من مليون ونصف المليون شهيد جزائري منذ عام 1830 وحتى عام 1962، فضلاً عن إحراق الغابات وإجراء التجارب النووية المدمّرة في الصحراء الجزائرية، وتحطيم البنيات الاجتماعية والثقافية والتعليمية والعناصر المشكلة للهوية التاريخية الوطنية الجزائرية.

أما بخصوص وضع الجالية الجزائرية في فرنسا، بما في ذلك مشكلة المهاجرين الذين يُصنّفون فرنسياً بأنهم غير شرعيين، فقد أشارت وسائل الإعلام الجزائرية المقرّبة من الجهات الصانعة للقرار السياسي الجزائري، إلى أن اليسار الفرنسي قد لا يملك الأغلبية المطلقة التي تخوّله القيام بإلغاء قوانين الهجرة التي سنّتها فرنسا في 18 كانون الثاني (يناير) 2024، كما أن حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي لم يربح الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة، أصبح مثل البطة العرجاء في المشهد السياسي الفرنسي، فلا يقدر أن يتصرّف بمفرده في الملفات الحساسة، وفي الطليعة ملف العلاقات الجزائرية - الفرنسية.

في هذا السياق، يستبعد المراقبون السياسيون الجزائريون قيام أي تحالف يضمّ اليمين المتطرف وفسيفساء اليسار الفرنسي، بهدف إيجاد الحلول سواء لملف المهاجرين الجزائريين المقيمين في فرنسا، أو بخصوص المشكلات الحادة التي تعاني منها الجالية الجزائرية، أو بخصوص ملف الذاكرة، وهلّم جرَّا.

نظراً لما تقدّم، أكّد الخبير الإعلامي الجزائري محمد مسلم في تحليلاته لما ينتظر الجزائر من صعوبات مع التركيبة السياسية الجديدة التي أفرزتها مؤخّراً انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية، أن من "بين النقاط التي تضمّنها قانون الهجرة المعدل، وأضرّت كثيراً بالمهاجرين الجزائريين، تلك التي ضبطت شروط التمتع بالإعانات الاجتماعية، مثل المنحة العائلية ومنحة السكن وغيرها من الإعانات الأخرى، حيث اشترطت على المهاجرين الإقامة في التراب الفرنسي مدة سنة بشكل قانوني، وهذا أمر لم يكن مطروحاً من قبل".

في الواقع، إن هذه الضوابط القانونية الفرنسية الصارمة سوف تزداد حدّة أثناء تطبيقها، عندما يكون الإعلان عن حكومة فسيفساء اليسار قد تمّ، علماً أن هذه الحكومة المفترضة لا تملك الأغلبية في الجمعية الوطنية الفرنسية، التي بموجبها تتمكن من تعديل هذه القوانين، الموروثة عن ماكرون، والذي سوف يبقى حاضراً في قصر الإليزيه، أو مسحها مسحاً نهائياً.

في هذه الحالة، الرئيس الفرنسي لن يقدر بدوره أن يدفع بالقطبين المتعارضين، وهما فسيفساء اليسار واليمين المتطرّف، إلى عقد صفقة زواج براغماتي مفترض عابر يمكن أن يؤسس لتكتل قوي ضدّ قوانين الهجرة التعسفية، التي نجح ماكرون في بدايات عام 2024 في سنّها وضمان المصادقة عليها.

ويعتقد مراقبون سياسيون جزائريون، أن تطبيق الحكومة الفرنسية خلال الشهور القليلة المقبلة قانون ترحيل مئات من المهاجرين الجزائريين غير الشرعيين بالقوة إلى الجزائر سوف يُدخل العلاقات الجزائرية - الفرنسية في الثلاجة على نحو معقّد جداً. إلى جانب ذلك، هذا الترحيل سيخلق، إذا تمّ تطبيقه من طرف الحكومة الفرنسية، أكثر من مشكلة للدولة الجزائرية التي يصعب عليها أن توفر لكل هؤلاء المرحَّلين مناصب الشغل والسكن، في الوقت الذي تعاني فيه الجزائر منذ سنوات من آفة البطالة التي واجهتها بشكل إيجابي حتى الآن بتقديم منح شهرية دائمة لأكثر من مليوني عاطل من العمل، بحسب تقديرات الإحصاءات التي نُشرت هنا وهناك في وسائل الإعلام الجزائرية.