الصيفُ ضيفٌ، هذا ما يؤكده مثل عربي قديم. المقصود أنّ إقامته قصيرة. والصيفُ البريطاني ضيفٌ محبوبٌ وليس ثقيلاً، خصوصاً حين يأتي بعد معاناة فصل شتاءِ رمادي وممطر وبارد وطويل ومسبب للكآبة، ربما جَرّبه وعرفه الذين أتيحت لهم فرصة العيش في بريطانيا فترة من الزمن.
الصيفُ البريطاني من نوع خاص، بمعنى أنه يتميّز بالقِصر، وقد لا يأتي، أو يأتي مثقلاً بغيوم وسحب وأمطار وعواصف، وقد يأتي جافاً وشديد السخونة. وصيف هذا العام وصل متأخراً. وعلى غير المتوقع، تحوّل من ممطر إلى ساخن جداً. وهي ميزة أخرى تضاف إلى المزايا المذكورة أعلاه.
في البداية انتظر البريطانيون وصول الضيف، واستعدوا له. إلا أنّه تأخر في المجيء وأقلقهم. وحين ازداد تأخره بشكل لافت، ولم يتوقف سقوط الأمطار، خرج خبراء الطقس البريطانيون، في وسائل الإعلام، يعلنون للناس أن صيف هذا العام ضلّ الطريق، ولم يعثروا له على أثر.
أحد كُتّاب الزوايا الصحافيين البريطانيين اشتكى في مقالة، من تأخر الصيف، محتجّاً بأنه لم يروِ حديقة بيته بالماء ولا مرّة خلال شهر يونيو (حزيران)، وأنّه في شهر يوليو (تموز) ظلّ حريصاً على مواصلة بلع حبة فيتامين «د» كل صباح، كما كان يفعل خلال فصل الشتاء، لاستمرار غياب الشمس.
الصيفُ في بريطانيا صيفان: طقسي وسياسي. وإذا غاب أحدهما أو تأخر في الحضور، توفر الآخر. هذا العام تأخر الصيف طقسياً، لكن الصيف السياسي حضر في وقته. وكان شهر يونيو شهر الحملات الانتخابية، التي انتهت بخروج المحافظين من الحكم بعد نحو عقد ونصف العقد من الزمن، وبهزيمة لا تنسى، ومكانهم اعتلى العماليون اليساريون كرسي الحكم وبأغلبية تكاد تكون تاريخية. آخذين في الاعتبار الانتصارات التي حققتها أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا وهولندا والمجر والنمسا، كانت هزيمة المحافظين بمثابة نكسة لليمين المتشدد على نحو خاص، لكراهيتهم لحزب العمال، لتعاطفه التاريخي مع الجاليات الإثنية والعرقية.
عودة العمال إلى الحكم، مضافاً إليها قرار رئيس الحكومة بإلغاء ترحيل المهاجرين غير القانونيين إلى رواندا، وازدياد وصول قوارب المهاجرين عبر القنال الإنجليزي، تكفلت مجتمعة في رفع درجة حرارة الأجواء السياسية، ومهدت الأرض أمام اليمين المتطرف إلى العودة لملاعب العنف.
لم يكن متوقعاً أن يكون شابٌ، لم يبلغ الثامنة عشرة من العمر، مولود في بريطانيا ومن أصول رواندية، الشرارة التي ستشعل الفتيل، بقيامه بالهجوم على مدرسة أطفال وطعن ثلاث بنات منهن قتلاً بسكين، وجرح ثمانية آخرين. حدث ذلك في بلدة صغيرة، اسمها ساوث بورت قرب مدينة ليفربول. الجريمة كانت مروعة، وأثارت ردود أفعال كبيرة في جميع أنحاء البلاد، واستنكار كل الأطراف السياسية. وفي الوقت ذاته، قدم الشاب الرواندي لليمين المتطرف ما كانوا يتمنّونه.
الجالية الإسلامية، رغم انتفاء وجود أي علاقة لأفرادها بجريمة القتل، كانت الهدفَ المقصود من إشعال نيران الأحداث مؤخراً. وكانت وقودها؛ بأن تمَّ الترويج من خلال الإنترنت، من قبل العنصريين، بأن القاتل مهاجر غير قانوني مسلم، وصل إلى بريطانيا عبر بحر المانش.
اللافت في الأمر أن أحداث الشغب العنصري تزامنت مع رحلة قامت بها وزيرة الخزانة البريطانية إلى أميركا لتشجيع المستثمرين الأميركيين على استثمار أموالهم في بريطانيا، والجزرة التي كانت تعد لتقديمها إليهم، هو الاستقرار السياسي الذي تتمتع بها بريطانيا بعد خروج المحافظين من الحكم، وعودة حزب العمال إلى الإمساك بمقاليد الأمور! لكن اليمينيين العنصريين سحبوا من تحت قدميها البساط.
أحداث الشغب الأخيرة أسقطت ورقة التوت عن اليمين العنصري في بريطانيا. وأصبح عداؤهم سافراً نحو العرب والمسلمين، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، وفي الجهة المقابلة، يقف المناهضون لهم والمناوئون للعنف والداعون إلى التعايش بسلام بين جميع التعددات الإثنية في بريطانيا، وهم الأكثرية لحسن الحظ. وأبانوا عن ذلك بخروجهم في مظاهرة كبيرة في لندن يوم الأربعاء الماضي. كما تمكنوا من التصدي للمخربين في عدة مدن، وحالوا بينهم وتحقيق أهدافهم، في الاعتداء على المساجد، والممتلكات.
هناك خوف بين أفراد الجالية الإسلامية، خصوصاً النسوة، من عودة الاعتداءات العنصرية إلى الشوارع، كونهن هدفاً واضحاً وسهلاً للعنصريين، على نحو يذكر بفترة الثمانينات من القرن الماضي، حين انتشر «حليقو الرؤوس» من العنصريين المتطرفين في الشوارع، لممارسة الاعتداءات العنفية على الأجانب، خصوصاً من ذوي البشرة غير البيضاء.
التعليقات