فارس خشان

قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تاريخ إطلاق حركة "حماس" حرب "طوفان الأقصى" التي انضمّ "حزب الله" إليها في اليوم التالي عبر ما وصفه بـ"إشغال" إسرائيل على الجبهة الشمالية بهدف "ترييح" التنظيمات الفلسطينية على الجبهة الجنوبية، كان التوتر على أشده بين إسرائيل ولبنان، بسبب إقامة الحزب نقاطاً متقدمة له على الخط الأزرق، وهو الحدود الموقتة بين البلدين، الأمر الذي أدى إلى دخول الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين على الخط، من أجل إبرام "اتفاق بري" شبيه بالاتفاق البحري الذي أراح إسرائيل في استثمارها المربح للغاية لحقل كاريش المجاور لحقل "قانا" الذي لم ينتج غازاً للبنان بعد!

ومنذ أشهر عدة، وضعت إسرائيل خطاً أحمر خاصاً بحدودها مع لبنان، بحيث جزمت بأنّها لن تقبل أبداً بإعادة الوضع في الجبهة الشمالية إلى ما كانت عليه الحال في السادس من تشرين الأول، ووضعت شرطاً للقبول بتسوية دبلوماسية، وهو إبعاد "حزب الله" إلى ما وراء الضفة الشمالية لنهر الليطاني، ووضع آلية تنفيذية متطورة للقرار 1701 الذي كان قد أنهى "حرب لبنان الثانية" التي بدأها "حزب الله" في الثاني عشر من تموز (يوليو) 2006.

ومع توالي الأيّام، تدحرجت المواجهات الحدودية وتحوّلت إلى "ميني حرب" بين إسرائيل، من جهة و"حزب الله"، من جهة أخرى. ليس "حزب الله" من أقدم على توسيع رقعة المناوشات، فهو كان يلتزم "خط الحرب" المنتشر على عمق أقصاه خمسة كيلومترات من كلا الجانبين. إسرائيل هي التي تعمّدت ذلك، إذ قررت، بالإضافة إلى إلحاق تدمير كبير بالشريط الحدودي اللبناني، مطاردة مقاتلي "حزب الله" وقادته، أينما كانوا في لبنان، حتى وصلت في الثلاثين من تموز للمرة الثانية إلى حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث اغتالت القائد العسكري للحزب فؤاد شكر. المرة الأولى كانت حين اغتالت القيادي في "حماس" صالح العاروري في الثاني من كانون الثاني (يناير).

وبفعل هذا التوسيع، تمكن الجيش الإسرائيلي حتى تاريخه من تصفية أكثر من أربعمئة مقاتل وقائد يعملون ضمن وحدات "النخبة" في "المقاومة الإسلامية في لبنان". غالبية هؤلاء محترفون، وقد اكتسبوا مهارات كبيرة، بسبب مشاركتهم في حروب على أكثر من جبهة، سواء في لبنان، أم في سوريا أم قي العراق أم في اليمن وصولاً إلى البوسنة، وخضعوا لدورات علمية وتدريبية على أحدث الأسلحة المتوافرة في إيران، في معاهد تابعة لـ"الحرس الثوري الإيراني". كثير من هؤلاء، لم يكونوا على الجبهة، حين استهدفتهم إسرائيل، بل طاردتهم في منازلهم وفي كل مكان يلجأون إليه، للتمويه.

وحاول "حزب الله" كثيراً أن يوقف هذه الهجمة الإسرائيلية على "ثروته البشرية"، الأمر الذي جعله يتدحرج ليس إلى استهداف مناطق في عمق شمال إسرائيل فحسب، بل إلى الكشف عمّا تتضمنه مخازنه من ترسانة سلاح "استراتيجي"، أيضاً.

إذاً، كل ما قام به "حزب الله" لإبقاء مساهمته في حرب "طوفان الأقصى" ضمن حدود "المساندة"، لم تنفع، لأنّ طموح إسرائيل النهائي، هو تحويل قطاع غزة إلى جبهة ثانوية لجعل لبنان جبهة رئيسية.

وثمة أكثر من مسؤول وسياسي بارز في إسرائيل، بمن فيهم وزراء في الحكومة وقادة في المعارضة وجنرالات في الجيش، يضغطون على بنيامين نتنياهو حتى يسرع في إنجاز "صفقة الرهائن" في غزة، من أجل تركيز جهود الجيش وإمكاناته ضد لبنان.

وسبق أن أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، مراراً وتكراراً، أنّ وقف النار في غزة، إن حصل، لن يسحب نفسه هذه المرة على الجبهة الشمالية.

وللمرة الأولى، أعطى مجلس الوزراء الإسرائيلي، أمس، الجيش حرية الحركة الكاملة، براً، بحراً وجواً على الجبهة الشمالية، حتى لو تسبب ذلك باندلاع حرب واسعة.

ولم يتوقف التنسيق الأميركي - الإسرائيلي هذا الأسبوع، بحيث بدا أنّ هناك غرفة عمليات مشتركة يديرها دفاعياً وزيرا دفاع البلدين اللذان تهاتفا أربع مرات في أسبوع واحد، وهجومياً رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي وقائد القيادة المركزية في الجيش الأميركي مايكل كوريلا الذي زار تل أبيب مرتين في الأسبوع نفسه أيضاً.

اللافت للانتباه، في المعلومات الضئيلة التي يوزعها الطرفان الأميركي والإسرائيلي عن هذا التواصل الكثيف، أنّ واشنطن زودت تل أبيب بما كانت تحتاج إليه من "ذخائر حرجة"، أي تلك القنابل التي يمكنها أن تخترق حتى مستويات عميقة التحصينات المستهدفة تحت الأرض.

ومنذ أعلن "حزب الله" أنّه يعمل لتحديد هدف نوعي يعينه على الرد، بطريقة مؤلمة، على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، كثفت إسرائيل خططها الوقائية في لبنان، بحيث هاجمت، على مدار الساعة، كل ما يمكن لـ"حزب الله" أن يحركه، ما أدى إلى ارتفاع عدد القتلى في صفوف الحزب، ونقلت خرق جدار الصوت في لبنان حتى مستوى "الغارات الوهمية" التي تهدف إلى إثارة الرعب العام، وملأت الفضاء اللبناني كما الفضاء الإلكتروني، برسائل تنسب مسبقاً ما سوف ينتج من دمار وقتل ونزوح وتهجير وتجويع عن حرب واسعة مرتقبة، إلى "حزب الله" وزعيمه حسن نصر الله.

ويعرب مصدر دبلوماسي فرنسي عن اعتقاده أنّ مخاطر الحرب على لبنان كانت دائمة ماثلة في الأذهان، ولكنها هذه المرة وصلت إلى حافة الهاوية، إن لم يتم تدارك الأمور فوراً، والمسارعة إلى فتح القنوات الدبلوماسية، من دون إبطاء.

وإذا كانت إيران قد قبلت باحتمال فصل انتقامها من إسرائيل عن "انتقامات" التنظيمات الموالية لها، فإنّ إسرائيل تُظهر إصراراً غير مسبوق على فصل التعامل مع إيران وغزة عن التعامل مع "حزب الله".

وفي واقع الحال، وفق مصادر دبلوماسية تنشط على خط مجلس الأمن الدولي، فإنّ الصورة في جنوب لبنان يجب أن تكون واضحة، قبل حلول نهاية آب (أغسطس) الجاري، وتحديداً قبل اتخاذ القرار بتجديد مهمة اليونيفيل، سنة إضافية، إذ إنّ مستقبل الجبهة الشمالية يستحيل أن يكون شبيهاً بماضيها!