سمير التقي

فيما تصبح الانتخابات الأميركية قاب قوسين أو أدنى، تكرّس مرشحة الصدفة كامالا هاريس نفسها مرشحة رسمية للحزب الديموقراطي، وتمضي قدماً في ترجيح فرصها نحو المكتب البيضوي.

مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، يعوّل الديموقراطيون على أن المناسبات الرئيسية الثلاث المقبلة المتعلقة بالحملة الانتخابية، لن تكون فرصاً لتقوية حملة ترامب، بل لإضعاف زخمها. كما ستكون، من جهة أخرى، فرصة لتقوية كامالا هاريس، إذ يتفاءل الخبراء الديموقراطيون بأن تثبت جدارتها في المؤتمر العام للحزب الديموقراطي، وتنتظر ترامب أجندة المحاكمات القريبة المقبلة، وتنتظر المرشحين المناظرة المقبلة والتي يراهن الديموقراطيون على أن هاريس ستتمكن من أن تقلب معادلة الكاريزما لمصلحتها.

نعم، ينظر الخبراء الانتخابيون الديموقراطيون بتفاؤل إلى العملية الانتخابية الراهنة.

وفيما يدرك هؤلاء أن قاعدة الحزب الديموقراطي تتسم بتنوع كبير، وبرامج متناقضة، ومشارب متفاوتة، فإن تجميع قوى الحزب يحتاج إلى مرشح يكون نقطة تقاطع لتوحيد مكوّناته وقواه. ولتحقيق ذلك، فإنهم يراهنون بجد على ما تتمتع به هاريس من تنوع أصولها العرقية، وانتمائها إلى جيل القيادات الشابة، وسجل نظيف.

في المقابل، يعرف الخبراء الديموقراطيون أن قاعدة الحزب الجمهوري أضيق من قاعدة حزبهم، لكنها لطالما كانت أكثر انضباطاً وتلاحماً. لذلك فإنهم يراهنون على حقيقة أن تاريخ الانتخابات الأميركية يثبت أن الحزب الجمهوري لم يتمكن من الفوز في الانتخابات، إلا حين حصل على ثلثي أصوات الناخبين المستقلين. لذلك فإنهم يعوّلون على فشل ترامب، بشخصيته الخلافية، وسيرته القانونية والأخلاقية، في استقطابهم. بل يراهنون على أن تنجح كامالا هاريس بشخصيتها المنفتحة وتوجهاتها الليبرالية في استقطاب هؤلاء المستقلين.

لكن ما سأعرضه هنا لا يعتمد لا على استطلاعات الرأي، ولا على أمزجة الخبراء الديموقراطيين المنحازين.

في مراكز الأبحاث ينظر الباحثون إلى استطلاعات الرأي التي تجري قبل مؤتمرات الحزبين (مؤتمر الحزب الديموقراطي في 19 آب/ أغسطس)، وقبل أن تبدأ عمليات التصويت المبكر بالتبلور تدريجياً، وقبل بدء انخراط المستقلين والحياديين في العملية الانتخابية، على أنها استطلاعات مضللة وتتصف بهوامش خطأ واسعة.

وإذ يتحدث العديد من الخبراء عن أن أميركا ليست جاهزة لرئيسة امرأة، ولا جاهزة لرئيسة سوداء، وأصول مختلطة، فإن تلك الحجج سرعان ما ترتد عليهم. فلطالما قال الخبراء المحافظون إن أميركا ليست جاهزة لرئيس كاثوليكي مثل جون كينيدي، ولا لرئيس من دون ماض سياسي مثل ريغان، ولا لرئيس أسود مثل أوباما. وبغض النظر عن الانقسام الحزبي، كان رأي الناخب الأميركي مختلفاً تماماً، وخابت تقديراتهم بالكامل.

لكن، بعيداً عن ضعف القيمة العملية للاستطلاعات، ثمة حزمة المؤشرات التوجيهية التي تعتمدها مراكز الأبحاث وسبق أن عرضتها، في مقالة سابقة. لقد أثبتت هذه المؤشرات صدقيتها حتى من خلال تجربة تطبيقها بشكل راجع على نتائج الانتخابات السابقة وصولاً إلى انتخابات عام 1860. وكانت هذه المؤشرات قادرة من دون انحياز وبثقة، على التنبؤ بنجاح ريغان، ثم بوش، ثم كلينتون، ثم أوباما، ثم ترامب وبايدن.

بمتابعة هذه المؤشرات يمكن القول إن حزب هاريس الديموقراطي، خسر أصلاً أحد هذه المؤشرات، بخسارته مجلس النواب في الانتخابات النصفية. وبتنحي بايدن يخسر الحزب الديموقراطي ميزة الترجيح التي يضيفها استمرار الرئيس الحالي.

وفيما تعتبر الكاريزما الشخصية الكاسحة والعابرة للخنادق الحزبية، أحد المؤشرات المهمة في الانتخابات، إلا أنها لا تعتبر من العوامل الحاسمة في هذه الانتخابات، ذلك أن ترامب لا يعتبر قوياً إلا بين مناصريه. ومن جهتها لم تحقق هاريس انبهاراً وطنياً عابراً للخنادق الحزبية، كما كانت الحال مع لينكولن وروزفلت وريغان.

لكن فيما ورثت هاريس المؤشرات الإيجابية التي خلفتها سياسات بايدن، لا تزال أربعة من مؤشرات النجاح، قلقة وغير محسومة لمصلحتها بعد.

ورغم أن هذه المؤشرات لا تزال ترجح نسبياً نجاح هاريس، إلا أنها لا تزال مؤشرات قلقة.

والتقدير الحالي أنه كي تخسر كامالا هاريس هذه الانتخابات، عليها أن تخسر ثلاثة من هذه المؤشرات الأربعة الآتية:

1.مؤشر وحدة الحزب الحاكم، فقد تمكنت هاريس من إعطاء دفعة كبيرة لمعنويات الكوادر الحزبية والحيادية الشابة وحماستها، ناهيك بالتفاف النساء والتيارات التقدمية في الحزب حولها. وما لم تظهر معارضة معتبرة لها في مؤتمر العام للحزب الديموقراطي، سيلعب هذا المؤشر لمصلحتها. لذلك نبقي هذا المؤشر كمؤشر قلق.

2.الاضطرابات الاجتماعية: رغم الاحتجاجات في الجامعات ضد موقف بايدن من الحرب في غزة وما رافقها من احتلال لجامعات، لكن هذه الاحتجاجات لا تزال بعيدة عن أن تصبح اضطرابات اجتماعية واسعة تتقاطع فيها شعارات اجتماعية واقتصادية تخص المواطن الأميركي كما كانت الحال في الاحتجاجات الهائلة التي رافقت الحرب الفيتنامية في ستينات القرن العشرين، أو حركة "حياة السود مهمة"، التي كادت تهدد الاستقرار العام للبلاد. ورغم أن هذا المؤشر لا يزال يعمل لمصلحة كامالا هاريس إلا أنه يبقى احتمالاً قيد البحث.

3.مؤشر موقع المرشح الثالث. ينظر إلى وجود مرشح ثالث منافس كمؤشر معتبر في حال تمتع المرشح الثالث بنسبة أصوات أكثر من 10% وهو أمر بعيد الاحتمال بالنسبة إلى RF Kennedy، بخاصة أنه عملياً، بسبب أجندته المحافظة وموقفه المتشدد تجاه العديد من القضايا الاجتماعية، يسحب الأصوات من جمهور ترامب، وليس من هاريس، ناهيك بالانقسام الذي تطور بسرعة في فريقه الانتخابي وجمهوره.

4.المؤشر الرابع احتمال الفشل العسكري في الخارج، أو النجاح العسكري الواضح لدولة معادية.

ورغم التفاؤل الكبير لدى قواعد الحزب الديموقراطي، فإن احتدام الصراع وتصاعد حملة الرئيس السابق ترامب تبقي الكثير من العوامل معلقة.

ليست هذه الانتخابات عرساً من الأعراس الانتخابية الفولكلورية التي تُذبح فيها الخراف لمرشحين ناجحين سلفاً، بل هي مكسر عظم ومجابهة لا رحمة فيها. مجابهة تُبذل فيها قدرات بشرية ومادية هائلة، وتقرر موازين القوى الاجتماعية بين كتل ومكونات مهولة، وتقرر فيها مصائر موارد مالية وسياسية ومسارات ترليونات من الدولارات صعوداً أو هبوطاً.

وإذ يقترب موعد المؤتمر العام للحزب الديموقراطي، يحتدم الصراع بحيث لن يتم فيه توفير أي كلمة أو أداة للتأثير في الرأي العام.

أما المواطن الأميركي الذي أراقبه كل يوم من نافذتي، ذلك الإنسان الفردي، العادي، الشغيل، والمقاتل، فها هو يتمطط ببرود وبطر، يبتسم سعيداً يلاعب كلبه، ويستمتع بتهافت المرشحين يتوسلون رضاه، وهو يهز رأسه ويتدلل.