حسن اليمني

تمتاز مقالات الدكتور توفيق السيف فوق السلاسة بتلقائية لا تصنع فيها مثلما يمتاز بالعمق في المعنى والمضمون، وفي مقاله الأخير بعنوان (الحداثة التي نراها) المبني على طرح من الأستاذ محمد الحرز في ذات المضمون استوقفني مصطلح (الحداثة) كأني أسمعه لأول مرة وتراءت لي الهالة التي يبديها كثير من المثقفين العرب يولونها ركن الاهتمام وخاصة حينما يستعيرون من الفكر والفلسفة الغربية ما يعتبره البعض تنويراً للعقل، أو كما يراها الدكتور توفيق حين قال في مقالته بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 26 من شهر يوليو (الحداثة تدور حول العقل وكونه مهيمناً على العالم)، ثم شرح ذلك بقوله (إن هذا معيار تميز بين الثقافة الأوروبية المعاصرة ونظيرتها العربية التي تستمد معظم طاقتها من التجربة التاريخية، حيث تميل في العربية للنقل وليس العقل) وأخشى أن أقول إن هذا التعريف ربما فيه انحياز يتبعه كثير من المثقفين العرب ويستحق التوقف.

الحقيقة أنني أستجير برحابة صدر الدكتور لأنتهز هذه الفرصة لبحث إشكالية لا أعتقد أنها مبهمة أو غائبة ولكن مغيّبة أو معتّمة بقصد أو دونه لدى بعض المثقفين العرب المنحازين بشكل قوي للثقافة الأوروبية، حتى إن الدكتور طه حسين -وهو يعتبر من رواد الحداثة - أظهر هذا الإبهام والتغييب رغم أنه في جانب منه عروبي إسلامي وهو ما بدأ يتلاشى في كثير من المثقفين العرب اليوم شيئاً فشيئاً حتى وصلنا مرحلة التمرد على الفكر والثقافة العربية والإسلامية، وأود أن أنقل جزئية من محاضرة للدكتور طه حسين ألقاها في فندق الكندرة أمام وزير المعارف آنذاك الأمير والملك فيما بعد فهد بن عبدالعزيز لعلي بهذا أجلى صورة الإشكالية برسم أوضح، يقول الدكتور طه حسين (كان الفرنسيون في بعض أوقاتهم يتحدثون عن انتشار ثقافتهم في الأرض فيقول قائلهم: إن لكل مثقف وطنين أما أحدهما فوطنه الذي ولد فيه ونشأ، وأما الآخر ففرنسا التي تثقف فيها أو تلقى الثقافة عنها) ولو استبدلنا فرنسا بالغرب لكانت أوسع وأنسب، والمعنى هنا أن الاستقاء من وعاء ثقافة ما حد الارتواء يتحول إلى انتماء مثلما فعلت الثقافة العربية الإسلامية في أمم أصبحت اليوم في عداد المسلمين، وأزعم أن هذا ظاهر في كثير من مثقفي العرب بمن فيهم الخليجيون، وحين يرى الدكتور توفيق أن المشايخ - والقصد المثقفون الإسلاميون - يعارضون ما يراه جوهر الحداثة كمنظومة قيم ومعايير، ثم يبين موقف الأدباء العرب الذين يراهم يركزون على الشكل الأدبي الحديث يبدو لي أن فاصلة في الفهم لدي تائهة أو متعقدة في بعضها يتم القفز عليها وتجاوزها لتأمين سلامة المخرج، ذلك أن الفصل هنا بين أدباء ومشايخ يبدو كتقسيم بين أدب وكهنوت وهو في الأصل غير صحيح إنما هما مدرستان ثقافيتان بمرجعيتين مختلفتين والأفضلية بينهما تحتاج لبحث أعمق في التأصيل، وهي على كل حال تأخذ نقاشاً آخر مختلفاً. وما أريد قوله إن تحديث وتطوير الفكر والثقافة أمر محمود ومطلب لمواكبة رتم العصر والسباق فيه لكن بشرط أن يكون التحديث من داخله ومن أدواته لترقيته وليس من خلال استيراد نتاج التحديث في ثقافة الآخر، لاختلاف الركيزة والمنطلق، الدكتور توفيق يرى الحداثة كما يلي (منهج حياة يعتمد العقل والعلم مصدراً وحيداً للمعرفة، ومعياراً لتمييز ما يصح وما لا يصح) وفي شرح لهذا يقول (الحداثة بقطبيها - أي العقل والعلم - تدور حول العقل لكونه مهيمناً على العالم)ستشهداً (بما ذكره د.حسن النعمي في حديث مسجل: محورية العقل وكون نتاجه معياراً وحيداً لما يُقبل أو يُرفض) وأمام العقل الذي أومن أنه أهم النعم التي أكرمنا بها الله سبحانه وتعالى يصرخ بداخلي صوت مجنون يسأل: أين خالق العقل؟

أليس وحي الله الكريم المحكم في كتابه المسطر فرق بين ركائز الثقافتين العربية والغربية أو لنقل ركيزة عربية إسلامية مقابلة لركيزة العقل في الثقافة الغربية؟ ألا يعني هذا دونية لركيزة الثقافة الغربية؟ كيف ونحن في إرادة التحديث بما يصح ولا يصح سلوك وأخلاق أن نغفل عن هذه الفاصلة القاسمة بين ركيزة ثقافتين مختلفتين، إلى حد قسمنا الفكر والثقافة إلى أدبية ودينية ثم جعلناهما متضادتين، ما تملكه الثقافة العربية الإسلامية من وحي إلهي يقابله في الثقافة الغربية تصادم بين العقل وتقديس اللا منطقي من قبل الكنيسة ما باعد بينهما وافترقا وهنا من المعيب حقاً أن نقلد وننئي المنطق الحق (الوحي) ثم نعتبر أننا نتقدم.

عفواً دكتور، أشعر وأحسب أنك تتحدث عن (الماجريات) الاجتماعية الناتجة عن معطيات حركة الزمن - والماجريات تعني جموع ما جرى سياق أحداث وأنشاط متنوعة كمعطيات للتغير الاجتماعي - وهو في ظنّي يختلف عمّا أسندت له مضمون مقالك المشوق، لا أرى علاقة للحداثة بالتعريف الذي تفضّلت به على حالات التبدل والتغيّر في المجتمع العربي أو الخليجي أو السعودي، مجريات النشاط والتفاعل بين البشر والدول ومنتجات العصر هي التي تشكِّّل حركة التحول في المجتمعات، وما نراه في سلوك وأخلاق وتعاملات بيننا أو داخلنا في خضم هذه الدورة صحيح أنه جديد ومستحدث فإن المرجع نظم علميه أكثر منها حداثة فكرية إلا في جانبها السطحي أو الظاهري مثل استخدام اللغة الإنجليزية في المعاملات الداخلية إنما هو بفعل القوة المادية الغالبة والمكتسحة وليس بفعل الجودة.

العقل الإلحادي أو المتمرد يختلف عن العقل المحكوم بقوة أعلى منه ولا يعني هذا أن الشيخ - كما تفضّلت - معاد للتحديث والأديب متفاعل معه أمام ميزان الصح والخطأ، فالصح والخطأ أكبر من استيعاب العقل الذي لا يستطيع تجنب الانحياز عن قناعته فيما يجهل، لكن العالم بكل شيء عدل في كل شيء، وفي هذه النقطة يفترق العقل عن العلم في المدى، ومفهوم أن الإنسان رغم ما وصل إليه من علم حلَّق به في الفضاء وغاص به في أعماق الأرض والبحر لم يصل رغم ذلك لما وصل إليه الجن في نقل عرش بلقيس برمشة عين من اليمن إلى فلسطين قبل أن تظهر ما يُسمى حداثة.

وأخيراً، أعرف أن فهمي هذا يعتبر رجعية في مفهوم الحداثة الغربية ولا أشتكي من ذلك لكني أشعر بغبن من انصراف مفكرينا ومثقفينا وخاصة في الجزيرة العربية مركز انطلاق الحضارة العربية الإسلامية عن ضبط معيار النهل في فهم وفكر ثقافة الآخر إلى حد احتجاب الرؤية عن مخزن الوعي الموروث أو الطبيعي والمكتسب إلى تقليد وتمثّل لمفكرين ومثقفين عرب من الشام والعراق ومصر شاب مخزون الوعي الموروث لديهم شوائب استعمار واختلاط فكر وثقافة ساقتهم أخيراً إلى التطاول على التاريخ العربي والإسلامي وليس آخرهم اليوم علي بن أحمد بن سعيد المعروف بـ أدونيس - وهي بالمناسبة يونانية استعارها ربما ليناسب الحداثة الصنم - وهذا في أحسن الوصف انتكاس بمفهوم الثقافة عقل وليس نقلاً وبمنطق العلم الفسيولوجي، وأذكر هنا مقولة رواها للكاتب محمد حسنين هيكل في حديث سياسي متلفز مفسراً حالة التغيُّر أو الانقلاب اللا إرادي لمفاهيم الإنسان بمثل ساقه السفير الذي يبتعث لتمثيل بلاده لدى دولة أخرى لمدة طويلة يتحول فيها دون أن يدري من سفير لبلاده لدى هذه الدولة إلى سفير لهذه الدولة لدى بلاده، والحقيقة أن هذا حال بعض المفكرين والمثقفين العرب والخليجيين أيضاً حين يغوصون في الحداثة الفكرية والثقافية الغربية دون بوصلة أو أداة ضبط فيحل العقل لديه في المرتبة الأولى محل البرهان الإلهي الحق الذي يؤمن به متبعاً الذي لا يؤمن به فتحدث هنا الفجوة الفارغة في الفهم فيبقى متبعاً مقلداً لا يصل الإبداع والريادة ولا يريد أن يعترف بوجودها متمسكاً بالدليل المادي المشهود في الواقع الذي تتزعمه القوة الغربية ظناً منه أنها نتيجة الفكر والثقافة الغربية وهذا ليس صحيح، وخلاصة القول أن الحداثة التي تحرر العقل وتبسط له مدى الفكر ليست في مظهر مستورد أو وشاح تميز، وإنما هي صقل الجوهر الكامن تحت ركام العصور وإعادة بريقه ولمعانه بما توفر من آليات علم وأدب ومعرفة معينة للعقل والفكر في المنطق التحليلي بفهم الحق والباطل بالعدل الإلهي بأكبر قدر من الفكر يصله العقل، والمثقفون في الجزيرة العربية مؤهلون أكثر من غيرهم في ذلك لولا المكابرة نتيجة الغرق في الحداثة.