محمد صلاح

أصيب بعضهم بالملل جراء الانتظار الطويل لردّ إيران على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، ثم باغتهم الإحباط وهم يستمعون إلى خطاب السيد حسن نصر الله عندما اعتبر أن الانتظار في حد ذاته عقاب لإسرائيل، بينما الناس كانوا يتوقعون منه أثناء كلمته في تأبين القيادي في "حزب الله" فؤاد شكر أن يلمح إلى موعد متوقع لتنفيد الوعد والوفاء بالعهد والثأر لمقتل شكر! خصوصاً بعدما صعد الجيش الإسرائيلي جرائمه في قطاع غزة، وبدا كأنه استغل انشغال العالم بترقب الردّ الإيراني وتوقع سيناريوات انتقام "حزب الله"، وعاد إلى معدلات القتل التي اعتمدها مع بداية الحرب، ولم يكتفِ إنما منح الشاشات فرصاً جديدة لعرض مشاهد حديثة لنزوح الفلسطينيين من مدينة إلى أخرى داخل القطاع، وجدد المخاوف من أخطار التهجير القسري والتطهير العرقي وإخلاء القطاع، إما بقتل أصحابه أو دفعهم إلى الهروب بعيداً عنه.

ولم تخلُ أحداث الأسبوع من استفزازات جديدة لمصر من جانب أحد رموز "حماس". فبينما انشغلت الاستخبارات المصرية بالترتيب لاجتماعات أطراف الأزمة وتجهيز الأوراق التي سيجري طرحها على طاولات المفاوضات، باغت القيادي الحمساوي موسى أبو مرزوق المصريين بانتقادات للأداء المصري مطالباً القيادة المصرية بأداء أدوار داعمة للفلسطينيين تساهم في تخفيف وطأة العدوان الإسرائيلي، من دون أن يشير بالطبع إلى الجهود المصرية في تدبير إدخال المساعدات الإنسانية، أو حتى الضغوط التي واجهها المصريون على كافة الصعد منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فغضبت القاهرة لكنها تجاهلت الردّ بشكل رسمي، وربما اعتبرت كلام أبو مرزوق من منغصات التعامل مع "حماس".

في الجانب الآخر، هدأ صخب الشارع الغربي الذي انفجر غضباً على الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة، إلا من بعض التظاهرات الخجولة التي تنقلها فضائيات عربية، بينما استمرت معاناة الفلسطينيين وآلامهم، ولم يعد الخبر يتعلق بمكان أو حجم هذه الغارة أو تلك، إنما فقط عدد الشهداء والجرحى، بعدما ألف الناس مشاهد المأساة التي صارت كأنها من مفردات الحياة، وتقدمت أنباء اغتيال قادة ورموز حركة "حماس" و"حزب الله" والهجمات على جنوب لبنان وشمال إسرائيل والقواعد الأميركية في العراق، وهجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، على البرنامج اليومي للجيش الإسرائيلي في حصد أرواح الفلسطينيين في خان يونس ورفح، وتوارى الحديث عن "اليوم التالي" بعد انتهاء الحرب على غزة، وصار خافتاً بعدما تصاعدت نذر حرب إقليمية كان العالم يعتقد أن إسرائيل تخشاها، واكتشف أن بنيامين نتنياهو يسعى إليها بكل إصرار وتحد وبجاحة.

أما ما يبدو من صراع أو خلافات أو حتى عداء بين الولايات المتحدة وإيران، فكل ما مرّ من أحداث رسخ القناعات عند الناس بأنه مجرد تنافر شكلي رسمه الطرفان بحساب وتقدير لعواقبه، وحرصا على تفادي تصاعده، وكأنه لوحة لا بدّ من أن تبدو فيها إيران دولة قوية لها تأثيرها في المنطقة، ومصدراً للخطر على جيرانها المطلوب منهم ألا يتخلوا عن أميركا كحليف استراتيجي يحميهم من الشطط والطمع والجموح الإيراني، بينما واقع السيناريو غير المعلن يضمن تمترس إيران كقوة إقليمية في المنطقة، وترسيخ القناعات بطموحاتها بما يضمن أن يواصل الأميركيون امتصاص العوائد العربية وممارسة دور الراعي والأب الروحي.

ورغم الدراسات والأبحاث التي أكدت أن العرب أنفسهم أدركوا تلك الحقائق، لكن ظروفهم، أو قل ضعفهم، ومخاوفهم من الطرفين جعلتهم على مدى عقود يسعون إلى التحالف مع أحد الطرفين ضد الآخر، لأن كسب ودهما أو رضاهما معاً أمر غير مسموح به!

ولأن بداية الحل لأي أزمة هي أن تدرك أطرافها أن لديها فعلاً أزمة لتُتاح لطرف أو أكثر فرصة المعاونة في حلها، من دون أن يُصر كل طرف على أن الكل مخطئ وأنه الوحيد على صواب وأن الجميع مدانون وهو وحده البريء، وأن العراقيل وضعت في طريقه فتعثر، لا أمل قريب في الوصول إلى قواسم مشتركة تُرضي إسرائيل و"حماس" في آن، وما زالت الحركة تحتفظ بمنصات إعلامية وقنوات تلفزيونية تسوّق لانتصاراتها وتشن الهجمات ضد كل انتقاد لأخطاء "حماس" أو خطاياها، بينما نتنياهو غير معني أصلاً بآراء الآخرين في أدائه أو الخطوات التي سار فيها الجيش الإسرائيلي، ولم يعترف أبداً بإنهاك الجيش وتردي الاقتصاد وتفكك المجتمع إلا في السياقات التي يضمن من خلالها المزيد من الدعم الغربي.

الصورة تشير إلى أن نتنياهو ماضٍ في الحرب، بل التصعيد فيها، وهو يضغط على كل الأطراف بما يملك من أوراق ويلعب على طرفي السباق الانتخابي في الولايات المتحدة، وأن "حماس" لن تتحدث أبداً، بدعم من حلفائها وخصوصاً إيران وأذرعها ومن قنوات تلفزيونية عربية، عن هزائم ولا حتى عن محن، إنما عن انتصارات متتالية بعد تدمير دبابة أو جرافة، أو قتل جندي إسرائيلي أو أكثر، وعن قنص ضابط إسرائيلي أو إطلاق رشقة صاروخية ضد تجمعات الجيش الإسرائيلي، من دون أن يقر قادة الحركة أنهم أصلاً ساروا، وما زالوا يسيرون، في الطريق الذي يزيد معاناة الفلسطينيين، ويهدد بألا يحتفظ قطاع غزة بالحد الذي هو عليه الآن. وتأتي تصريحات قادة الحركة وتصرفاتهم لتحرج العرب وتضع أمامهم العراقيل، وكأن "حماس" تتعمّد أن تدفعهم في اتجاه اليأس من تعديل مسارها وإصلاحها.

على ذلك، فإن مسألة الصفقات بين "حماس" وإسرائيل وجهود الوسطاء لتحقيق اتفاق لوقف الحرب وتبادل الأسرى والرهائن تحولت، بعد التسخين الأخير، إلى ما يشبه توقعات خبراء الأرصاد في النشرة الجوية التي ينتظرها الناس ليعرفوا ما سيرتدون في اليوم التالي، فيكتشفون أن كل ما سمعوه ليس دقيقاً وأن عليهم أن يتعاملوا مع اللحظة، وليس وفقاً لتوقعات غير مضمون أن تتحقق. فما بين خطة بايدن والاتفاقات التي كانت على وشك الإقرار، ثم تعطلت أو تم التراجع عنها، أو ضربت مع كل صاروخ استهدف قيادياً حمساوياً أو رمزاً إيرانياً، جاء الاتفاق المصري - القطري - الأميركي بالعودة إلى ما كانت الأطراف توصلت له بالفعل قبل أسابيع، أو قبل شهور، لكن بقي الأمل في تنفيذ بنود اتفاق جديد مرهون برغبات نتنياهو وخططه للحفاظ على تحالفه الحكومي والسيناريوهات التي رسمها لمستقبله السياسي.