كنت جالساً وراء مكتبي ذلك النهار البعيد من عام 1984 أستعد لكتابة مقالة عندما بلغني نبأ وفاة خوليو كورتاثار، فانصرفت عن الكتابة ورحت أتصفح وأعيد قراءة بعض نصوصه التي أحتفظ بها حيّة في ذاكرتي. كانت أخباره قد انقطعت عني منذ فترة طويلة، ولم أكن على علم بمرضه ولا باحتضاره الأليم. لكني سررت كثيراً لمعرفتي أن أورورا كانت بجانبه طيلة الأشهر الأخيرة من حياته، وأنه بفضلها كانت جنازته رصينة وخالية من تهريج الغربان الثورية.

تعرّفت عليهما قبل ربع قرن من ذلك التاريخ، في منزل صديق مشترك يقيم في باريس، ومنذ ذلك اليوم إلى المرة الأخيرة التي رأيتهما معاً في اليونان عام 1967، حيث كنا نعمل مترجمين في مؤتمر دولي حول القطن، لم ينقطع اندهاشي كلما رأيتهما معاً واستمعت إليهما. كانت أحاديثهما دائماً على درجة عالية من الفطنة، والثقافة، والظرف والحيوية، وغالباً ما كنت أقول لنفسي: «يستحيل أن يكونا هكذا على الدوام. لا بد أنهما يتدربان على هذه الأحاديث في المنزل بهدف إبهار الضيوف والأصدقاء بالأخبار والملحوظات اللامعة، والطرائف التي في الوقت المناسب تضفي المرح على النقاش الفكري الكثيف والعميق».

كانا يتناوبان على طرح المواضيع بمهارة لا تترك مجالاً للملل أبداً. وكان يجمعهما تواطؤ عفوي وذكاء سري يبعثان على الإعجاب الشديد، فضلاً عن التزامهما الوطيد بقضايا الأدب، وما يبديان من سخاء، خصوصاً مع المبتدئين مثلي.

كان من الصعب جداً أن نفاضل بينهما حول من قرأ أكثر وأفضل، وأيهما كان الذي يدلي بأجمل الملحوظات والتعليقات حول الكتب والمؤلفين. والقول الذي كان شائعاً بأن خوليو يكتب وأورورا تترجم فحسب لم يكن عندي سوى تعبير عن حالة مؤقتة، وتضحية عابرة من أورورا كي لا يكون في العائلة أكثر من كاتب واحد. وتعود بي الذاكرة إلى المرات التي كنت أنظر إليها، صغيرة القامة، نحيلة، زرقاء العينين المتوقدتين بالذكاء والحيوية، وأتحفزّ لأسألها عن كتاباتها ورغبتها في النشر، ثم أحجم عن طرح السؤال.

في ذلك المساء من عام 1958 جلست إلى جانب شاب نحيل فارع الطول وقصير الشعر، يحرّك يديه الكبيرتين كلما بدأ بالحديث. قيل لي إنه كان نشر مجموعة قصيرة من القصص، ويتهيأ لنشر مجموعة ثانية ضمن سلسلة يشرف عليها خوان خوسيه أريولا في المكسيك. وكنت أنا على وشك إصدار مجموعة قصصية رحنا نتحادث حولها. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما علمت ساعة افتراقنا تلك الليلة أنه صاحب مجموعة القصص الشهيرة «كتاب الحيوان» والعديد من النصوص التي كنت أواظب على قراءتها في مجلة «جنوب» التي كان يشرف عليها بورخيس، وهو المترجم الفذّ الذي نقل جميع أعمال إدغار آلان بو إلى الإسبانية. كان يبدو معاصري، لكنه في الواقع كان يكبرني باثنين وعشرين عاماً.

خلال فترة ستينات القرن الماضي، بخاصة طيلة السنوات السبع التي أمضيتها في باريس، كان من أقرب أصدقائي، وقدوة لي ومرشداً. كنت معجباً بنمط حياته، وطقوسه وعاداته، ومولعاً بسهولة نثره ونقاوته، وبالمظهر العادي والأليف الذي كان يضفيه على قصصه السوريالية. وعندما كان يتصل لدعوتي إلى العشاء في الشقة الصغيرة على أطراف شارع «سيفر»، كنت كمن يضرب موعداً مع الفرح والسعادة. كان يذهلني ذلك اللوح الذي يحمل عشرات القصاصات حول الأخبار الغريبة، والأدوات النادرة التي كان يجمعها، وتلك الزاوية التي شاع أن خوليو كان يأوي إليها وحيداً ينفخ البوق ويلعب كالصغار. كان يعرف الكثير من أسرار باريس وأمكنتها الساحرة، ومن كل لقاء معه كنت أخرج مثقلاً بالكنوز: من الأفلام السينمائية، إلى معارض الرسم، والأماكن التي يحلو التسكع فيها والشعراء الذين كانوا على أبواب الشهرة.

كانت الصداقة ممكنة وممتعة مع كورتاثار، لكنه كان يحرص دائماً على وضع مسافة واضحة بين الصداقة والعلاقة الحميمة مستعيناً بمنظومة من القواعد التي كان يفرضها كشرط للحفاظ على صداقته. وكان ذلك يضفي عليه هالة من الغموض، وسدولاً من الأسرار التي يبدو أنها كانت مصدر النزعات المقلقة واللاعقلانية والعنيفة التي كانت ترشح من نصوصه الأدبية. كان شديد الحرص على عالمه الداخلي، يصونه كمثل تحفة فنية قوامها الأدب وبعض الحياة.

لكنه لم يكن متبحراً، ومثقفاً غارقاً في الكتب على طريقة بورخيس الذي كان يقول: «قرأت الكثير وعشت القليل». الأدب عند خوليو كان يبدو منحلاً في ماء الحياة اليومية، يضمخ العيش بأكمله ويثريه بالنسغ والغريزة والعفوية. ولعله كان الأكثر براعة في استخدام اللهو كأداة للإبداع الأدبي والاستكشاف الفني. لكنه لم يكن يلهو من أجل الكتابة، بل إن الكتابة عنده كانت لهواً، ومتعة لتنظيم الحياة - بالكلمات والأفكار - بالعشوائية والحرية التي تميّز الأطفال والمجانين. هذا اللهو جعل من أعمال كورتاثار مدخلاً إلى مطارح غير مطروقة كشفت لنا أبعاداً مجهولة في النفس البشرية. وليس من باب الصدف أن روايته الأشهر، والأكثر طموحاً، عنوانها لعبة أطفال «رايويلا».

التحول الكبير عند كورتاثار، الذي لم أشهد له مثيلاً على الإطلاق، حصل في مايو (أيار) 68. كان يتنقل من متراس إلى آخر، يوزع المناشير التي كان يحررها ويختلط بالطلاب الذين كانوا يريدون إيصال «الخيال إلى السلطة». كان في الرابعة والخمسين من عمره، وحتى وفاته بعد 16 عاماً، كان نصير الفكر الاشتراكي، مدافعاً عن كوبا ونيكاراغوا، موقعاً على كل البيانات التقدمية وحاضراً في كل المؤتمرات الثورية حتى آخر أيامه.

لكن بعكس العديد من الزملاء الذين اختاروا المسار اليساري وسيلةً انتهازيةً للصعود في المشهد الثقافي، كان ذلك التحول عند كورتاثار صادقاً، ونابعاً من عمقه الأخلاقي، وليس من الانتماء الآيديولوجي الذي كان ينفر منه، حتى أن أعماله كانت تبدو أحياناً صنيعةَ شخص آخر. وأذكر أني عرضت عليه مرة أن أعرفه بالكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، فقال مازحاً: «اسمح لي أن أمتنع، إنه مفرط في السياسة بالنسبة لي». أعطى الحياة أكثر مما أخذ منها، وارتكب الكثير من الأخطاء مثل ذلك التصريح الذي أكّد فيه أن جرائم ستالين كانت مجرد «حادث عابر». لكن حتى في أخطائه كان ساذجاً وبريئاً يفرض الاحترام. واظبت دائماً على احترامه، وعلى الصداقة التي جمعتنا، والمودة التي تجاوزت كل خلافاتنا السياسية.