محمد صلاح

لم ينسحب الرئيس الأميركي جو بايدن من مواجهة مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب في السباق الرئاسي المقبل لأسباب تتعلق بالسياسة الأميركية الخارجية، أو أسلوب التعاطي مع إيران، أو دعمه المطلق لإسرائيل، باستثناء بعض العبارات والمواقف الشكلية دون ضغوط حقيقية لوقف الحرب. ولم يكمل بايدن السباق نحو ولاية رئاسية جديدة تحت ضغوط التظاهرات ومظاهر الدعم الشعبي للفلسطينيين في ولايات ومدن أميركية عدة، فالأمر أميركي بحت ولأسباب تتعلق، بالدرجة الأولى، بحالته الذهنية والصحية وأدائه أمام ترامب، في المناظرة التي جمعت بينهما. مع ذلك، عليك كمحلل أو سياسي أو مهتم بالشأن العربي، أن تتوقع حملة لاغتيالك معنوياً تستهدفك، إذا لم تسوّق لـ"كتالوغ" الأكاذيب عن "حماس" وحلفائها، وثقل إيران وتأثيرها، وانهيار القدرات العسكرية الإسرائيلية تحت وطأة هجمات المقاومة، وتعلن أنك تصدّق أن أهل غزة يطالبون بمزيد من الأنفاق تحت الأرض لحماية المقاومة، وأن "طوفان الأقصى" نصر كبير للفلسطينيين وليست طوفاناً تسبّب في الأذى لأهل غزة وباقي العرب!

كلما اعتقد الناس أن الأمل قريب في وقف الحرب وانتهاء العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة، وأن اتفاقاً وشيكاً سيوقّع بين "حماس" وإسرائيل لتبادل الأسرى والسجناء والمحتجزين، وكلما اقترب الوسطاء من جني ثمار جهودهم الحثيثة لتخفيف وطأة الحرب على الفلسطينيين وتجنيب المنطقة أهوال حرب إقليمية، عادت الأوضاع إلى نقطة الصفر، وذهب الأمل أدراج الرياح، وتجدّدت المخاوف من اشتعال الإقليم. وبمجرد شرارة يطلقها أحد طرفي الأزمة، تتبدّل الأجواء ويعود الصخب ويجلس الناس أمام أجهزة التلفاز ليطالعوا بثاً مباشراً لحدثٍ دامٍ جديد وردة فعل دراماتيكية أخرى، قد تكون طائرة مسيّرة أو هجوماً محدوداً أو حادثة طعن أو حديثاً للإعلام يتضمن تهديداً غير محسوب. والمحصلة المزيد من الدماء تُضاف إلى أنهار أُريقت منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأرواح بريئة تفقد الحياة من جديد لتلحق بعشرات الآلاف استشهدوا لمجرد أن أصحابها تحولوا إلى زاد للحرب، وأطنان من الركام تتناثر مجدداً لتغطي معالم الطرق وجغرافيا الأماكن، بينما الأجساد ممزقة بين أحجارها وأسياخ حديدها.

كل الأطراف المتأثرة واقعياً ومعنوياً بالأزمة وتداعياتها ترغب في وقف العدوان إلّا طرفاها المباشران، فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يدرك أن في وقفها احتمالات لرحيله ثم محاكمته ثم تواريه عن أضواء الأحداث ونارها. وعلى الجانب الآخر، هناك إيران، الطرف الثاني المستفيد من استمرار الحرب وأهوالها، لا تعجز عن تحريك أذرعتها، وكلما فقدت ذراعاً أو أصيب بالعطب أو الضعف، سارعت لاستبداله بذراع آخر، فالمهمّ أن تستمر الحرب ولا تتوقف من دون أن تخرج بربح ينعكس على وضعها الإقليمي، ومستقبل لا تفقد فيه سطوتها في المنطقة.

في الأحداث الكبرى، عليك أن تتجاوز تنظير المُنظرين وحذلقة المتحذلقين وتفسيرات المغرضين، وعليك اختراق الحدث نفسه والدخول إلى أعماقه لتفهم دوافعه والظروف التي أدّت إليه والمخاطر التي ستترتب عن وقوعه، ولا تترك نفسك لتكون في النهاية ضحية المتاجرين بكل فاجعة والمستفيدين من كل كارثة، وعليك دائماً أن تدرك أن الضربات الجوية الإسرائيلية لميناء الحديدة أتت بعد عشرات الصواريخ والمسيّرات الحوثية، فشلت أغلبيتها في تحقيق الأهداف التي أُطلقت من أجلها، لكن واحدة منها تسبّبت في قتل إسرائيلي في تل أبيب منحت نتنياهو الفرصة كي يغطي على المطالب برحيله أو الضغوط عليه لتوقيع صفقة تبادل أسرى مع "حماس"، ويشغل الإسرائيليين والعرب والعالم بواقع جديد، وأن تتذكر "حماس" أن ما تطالب به الآن كان بين يديها قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. لا بدّ من تخطّي أمور شكلية ثبتت أن لها نتائج وخيمة وكارثية، فالطرمخة على تحالف إيران و"حماس" و"الحوثيين" و"حزب الله" و"الحشد الشعبي" في العراق يضرب كل الجهود التي تبدأ لمحاصرة العدوان الإسرائيلي على غزة أو حتى التعامل مع تداعياته.

ظهر أن كل الحسابات حول ردّة الفعل الإسرائيلية تجاه 7 تشرين الأول (أكتوبر) خاطئة، لكن الأخطر أن إيران وحلفاءها من ميليشيات وأحزاب وحركات وجماعات، تندفع من دون حسابات في الأساس، ويبدو أنها دائماً على يقين بأنها تحت الحماية الإيرانية، وأن أي ردة فعل من الدولة العبرية ستضع دائماً الثقل الإيراني في الاعتبار، بينما في المقابل تقوم الصواريخ والطائرات المسيّرة الإسرائيلية باصطياد قادة إيران في الخارج من دون اعتبار لأي ردة فعل. وحين سعت طهران إلى ردّ اعتبار أو تحسين صورتها وغسل سمعتها، افتعلت ذلك الهجوم المفاجئ بالصواريخ والمسيّرات التي جرى التقاطها قبل وصولها إلى أي مدينة اسرائيلية، بينما جلس الناس في أرجاء المعمورة ساعات ينتظرون وصولها. لكن، على الرغم من تلك المعطيات، ما زال بعضهم يصدّق أن "حماس" و"الحوثي" و"الحشد الشعبي" و"حزب الله" جميعاً يعتمدون على قوة ايران وثقلها، ولا يدركون أنهم مجرد أدوات تتحرّك بـ"الريموت كونترول" من بُعد لتحقق أهداف طهران وتخدم تطلعاتها.

إن استخدام العدوان الإسرائيلي على غزة لتحريض الشعوب ضدّ الأنظمة وتحويل الأمر إلى سباب وشتائم وبذاءات تطال كل من يعارض خطط "حماس" وتحالفاتها والتصرفات "الإخوانجية" التي تهدف إلى بث الفوضى وتسخين المجتمعات، أسلوب لم يعد ينطلي على من عانوا طموحات إيران ومؤامرات حلفائها، وحسابات استخباراتية غربية أفضت إلى تفتيت مجتمعاتهم وإسقاط عواصمهم واحدة بعد أخرى. لكن ليس أمام الذين أخطأوا إلّا أن يرتكبوا مزيداً من الأخطاء، فيستمر الإعلام المدلس يلقن الناس الدروس نفسها ويسير على النهج نفسه، معتقداً أن الشعوب لا تدرك أن طهران و"الإخوان" و"حزب الله" هم سبب المأساة التي خلّفت الدمار وأحدثت الخراب الذي حلّ بقطاع غزة، ونزع عن العرب ما تبقّى لهم من أنياب، وشلّ قدرتهم على اتخاذ قرار يتجاوز الشجب والإدانة، أو اللطم والبكاء، ليس على غزة أو القدس فحسب، ولكن أيضاً على مدن عربية أخرى صارت تحت هيمنة إيران، ويخضع أهلها لتوجّهات طهران.