محمد حسين أبو الحسن
في واشنطن المشغولة بقدرة الرئيس جو بايدن على مواصلة السباق الرئاسي من عدمه، عقدت قمة دول حلف شمال الأطلسي. في ذكرى مرور 75 عاماً على تأسيسه، قرر الحلف دعم أوكرانيا بنحو 40 مليار دولار وتزويدها بمقاتلات "إف-16" وأسلحة متطورة. وصف الأمين العام لـ"الناتو" ينس ستولتنبرغ الحرب في أوكرانيا بأنها أكبر أزمة تواجه الحلف، منذ أجيال، وأن المخاطرة الأكبر ستكون لو انتصرت روسيا، وأضاف: "لا يمكننا السماح بذلك، حان وقت الدفاع عن الحرية والديموقراطية، المكان هو أوكرانيا". توازن القوى قرر زعماء الناتو تحديث نظام الدفاع الجماعي لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة، بحثوا التعاون في الذكاء الاصطناعي والدفاع السيبراني ومواجهة المعلومات المضللة والتحديات الدولية. أبدوا قلقهم إزاء طموح الصين وشراكتها الاستراتيجية مع روسيا، ومحاولاتهما معاً لإعادة تشكيل النظام الدولي. وتطرقت القمة إلى التحديات الأمنية في المنطقة الأورو-أطلسية والمحيطين الهندي والهادئ، بحضور قادة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، وتناولت التعاون بين روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران.
يجسد الصراع في أوكرانيا "صراعات التوازن" بين القوى العظمى، تقوم قوة بدفع أخرى لخلق توازن في القوى عالمياً؛ صراع على الفضاءات الاستراتيجية ومناطق النفوذ والثروات. انتهى النظام العالمي القديم بانهيار الاتحاد السوفياتي وبسط الولايات المتحدة هيمنتها؛ لكن النظام العالمي لم تتشكل ملامحه بعد، من هنا يمكن اعتبار الحرب في أوكرانيا عتبة جوهرية في نحت ملامح النظام الجديد، باستخدام القوة العسكرية للضغط والإكراه. استدرجت الولايات المتحدة روسيا لحرب بالوكالة، لتحييدها قبل المعركة المقبلة لا محالة بين واشنطن وبكين على زعامة العالم. كسرت واشنطن المقاومة الأوروبية، الألمانية بالدرجة الأولى، لتحجيم التعاون الاقتصادي الأوروبي مع روسيا.
تحاول واشنطن الاحتفاظ بالهيمنة وعرقلة قيام عالم متعدد الأقطاب، يتبنى البنتاغون استراتيجية "الردع المتكامل"، مع الضغط على أعضاء الناتو، لرفع إنفاقهم الدفاعي إلى اثنين بالمئة من الناتج الإجمالي، مع قاعدة صناعية تضمن إنتاج ذخائر حاسمة في مسار المعارك. اتفقت فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا - قد تنضم إليها بريطانيا - على تطوير "صواريخ كروز" مداها 500 كيلومتر، بعد يوم واحد من اتفاق واشنطن وبرلين على نشر صواريخ أميركية بعيدة المدى وفرط صوتية بألمانيا عام 2026. سباق التسلح لا يبدي الناتو اهتماماً بإيجاد حل دبلوماسي للأزمة مع روسيا. يطلق سباق تسلح ربما يخرج عن السيطرة بشكل كارثي. حظرت معاهدة القوات النووية متوسطة المدى عام 1987 الصواريخ النووية والتقليدية التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر، لكن الولايات المتحدة انسحبت منها عام 2019. نددت موسكو بنشر الصواريخ بوصفه "تهديداً خطيراً للغاية" لأمنها القومي، وردّت بحدة على بيان قمة الناتو. قال ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الرئاسة الروسية إن قمة الناتو تكرّس مسار المواجهة، هذا الحلف أنشئ في عصر المواجهة للحفاظ على استمرارها، ولوّح بيسكوف بخطوات منسقة لردع الحلف الغربي.
أما ديمتري مدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي فقال إنه "يتعين على روسيا أن تفعل كل شيء حتى ينتهي طريق أوكرانيا الذي لا رجعة فيه إلى الناتو، باختفاء هذا البلد والحلف نفسه". ووصفت ماريا زخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية الناتو بأنه "عصابة حرب تقودها واشنطن، وتقاتل موسكو في أوكرانيا". وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلب استئناف إنتاج صواريخ نووية متوسطة وقصيرة المدى، بعد نشر أميركا صواريخ مماثلة بأوروبا وآسيا.
يستخدم الكرملين التهديد بالتصعيد النووي، لفرض شروطه السياسية. يحرص على تطوير أنظمة تسليحية جديدة لاسيما الصواريخ الفرط صوتية، والكروز برؤوس نووية. ذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية أن صناعة الدفاع الروسية تظهر قدرة أكبر على التطور، بعد تعيين الخبير الاقتصادي أندريه بيلوسوف وزيراً للدفاع، في مفاجأة أقلقت الغرب. ولن تتوانى روسيا عن استخدام الأسلحة النووية وسيلة ردع حال تهديد وجودها بأسلحة تقليدية أو نووية. لدرجة أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان حذر من أن الناتو يبتعد عن أهدافه الأصلية، ويتحول إلى منظمة عسكرية تلعب دوراً أساسياً في الصراع بأوكرانيا.
من جانبها طالبت الصين "الناتو" بالكف عن تضخيم ما يسمى تهديداً صينياً، وعن التحريض على المواجهة، وأن يسهم بشكل أكبر في استقرار العالم. قال لين جيان المتحدث باسم الخارجية الصينية إن الناتو ينشر معلومات أميركية مضللة لتقويض التعاون بين الصين وأوروبا. النظام العالمي يبدو حلف الناتو اليوم بقيادة أميركا أقوى وأكثر اتحاداً؛ حماية لاحتياجات أعضائه الأمنية الجماعية، كما قال بايدن بفخر خلال افتتاح القمة، وأشد تصميماً على مواجهة روسيا في أوكرانيا والقوقاز والبحر الأسود، قبل الانتقال الحتمي لحصار الصين، ما ينذر بإمكانية انزلاق العالم إلى فوضى عارمة أو نزال نووي يستأصل البشرية.
رفض قادة الحلف الاستماع لنصائح هنري كيسنجر، ثعلب السياسة العالمية. حذّر، في مقابلة لصحيفة "صنداي تايمز" قبيل وفاته، الدول الغربية من مواصلة الحرب مع روسيا وعدم أخذ مصالحها في الاعتبار، مبينا أن السؤال هو كيفية إنهاء الحرب. وبعد أن تنتهي، يجب إيجاد مكان لأوكرانيا وكذلك لروسيا، إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعاً متقدماً لنفوذ الصين بأوروبا.
وفي كتابه "النظام العالمي" خلص كيسنجر إلى أن هيمنة دولة واحدة على النظام العالمي تؤدي إلى أزمات حادة، حتى وإن بدت في ظاهرها وكأنها تجلب النظام والاستقرار؛ الأمر الذي يتطلب حتمية التعاون الدولي؛ لتدعيم أواصر النظام العالمي المنشود، وأهم دعائمه إرساء كرامة الفرد والحكم القائم على المشاركة والتعاون الدولي وفقا لقواعد يتفق عليها من الجميع، لا بالمفهوم الغربي فقط، بحيث تشمل الثقافات الصينية والروسية والإسلامية والأوروبية وغيرها، وينبغي أن يمر التقدم نحو هذا النظام ببعض المراحل الوسيطة.
وما بين اعتباره "درعاً أطلسية" أو "عصابة حرب" يبدو الناتو في ورطة، إذ يتطلب إرساء دعائم نظام عالمي استراتيجية متماسكة؛ على أن تكون قواعده وقوانينه قادرة على ربط أقاليم العالم بعضها بعضاً؛ هذه الأهداف يجب ألا تحركها المصالح الذاتية للدول، بل المصلحة المشتركة للنظام، حتى تُفوَّت الفرصة على الأنظمة والحركات المتطرفة من أن تنجح في إرباك هذا النظام كما يحدث اليوم.
التعليقات