سمير التقي
في ذهن معظم الناس خارج الولايات المتحدة، ثمة انطباع بأن الحزب الجمهوري هو حزب المحافظة الاجتماعية، والانكفاء الدولي، والانحياز لقطاع الأعمال والتجارة، والتشدّد النسبي في الشؤون الخارجية، والميل إلى المواجهة في الشؤون العسكرية.
لكن، في حقيقة الأمر، لا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الانطباع.
في باكورة أيامه، في عام 1854، تشكّل الحزب الجمهوري وكان للفكر المشاعي البرودوني الفوضوي تأثير عقائدي كبير في نشوئه وفي صفوفه في أوساط البروتستانت الشماليين، وعمال المصانع والمهنيين، ورجال الأعمال والمزارعين. وبعد صدور قانون كانساس-نبراسكا، صعد الحزب كحزب معاد للعبودية. وقاد أبراهام لنكولن في عام 1860 أميركا نحو النصر علي الولايات الكونفدرالية (1861-1865) وتفكيك النظام العنصري. وانتصر الجمهوريون على الديموقراطيين المناهضين لإلغاء العبودية.
كان لهذا النصر وانضمام العبيد السابقين إلى صفوفه الدور الأساس في سيطرة الحزب الجمهوري على المشهد السياسي الوطني في عام 1932. وعلى عكس الواقع الحالي، لم يكن للجمهوريين نفوذ بين البيض، من الكاثوليك الأيرلنديين والألمان في الجنوب، الذين شكّلوا في حينه كتلة التصويت الديموقراطية الرئيسية.
لكن في عام 1912، بعد رفض الحزب الجمهوري لبرنامجه، شكّل الرئيس الجمهوري السابق ثيودور روزفلت الحزب التقدمي، وغادر العديد من أنصار روزفلت الحزب الجمهوري. عندئذ، تحول الحزب الجمهوري أيديولوجياً، وبشكل جذري، نحو اليمين.
قفزت إلى ذهني هذه الحقائق وأنا أتابع اليوم الأخير للمؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، وألاحظ التحولات الدرامية والعميقة والمتدفقة باستمرار في قلبه وقلب أميركا بأسرها.
فكما في الحزب الديموقراطي، بدأت، منذ سنوات، دورة جديدة من التحولات الجذرية في صلب الجمهوريين، ودخلت فصائل سياسية جديدة، وبدأت تتحرك في صلب وهيكل الحزب، لتتخذ زخمها الراهن بصعود ترامب كأحد مظاهرها.
الآن، مع انعقاد المؤتمر، بدأنا نأخذ فكرة جديدة عن طبيعة هذه التحولات من دون أن يعني ذلك توقف عملية التحول، إذ يتحدّى ترامب وفريقه كل البنود المؤسسة للحزب الجمهوري، ويعيدان كتابتها من جديد. ليبقى السؤال الرئيس عمّا إذا كان هذا الهيكل العقائدي والسياسي والاجتماعي الجديد الذي ينمو أمام عيوننا، سيُكتب له الدوام.
ثلاثة أمور مفاجئة، انطوى عليها المؤتمر. أولها، الموقف اللين بشأن بعض القضايا الاجتماعية المحافظة، مثل الموقف من المثليين، والموقف من الإجهاض. ذلك أن ما يقوله ترامب هو أن هذه القضايا ستُترك لتقرّرها الولايات وليس على المستوى الوطني. أغضب هذا الكلام الكثير من المحافظين الاجتماعيين المتشدّدين في الحزب. لكن ترامب يبدو في موقف آمن على الأقل بالنسبة إلى هذه الدورة الانتخابية، من خلال تشديد قبضته على الحزب، مستفيداً من زخم العملية الانتخابية، بخاصة أنه اندفع في ترشيح نفسه من دون حتى أن ينتظر أياً من الانتخابات التمهيدية.
الأمر الثاني، هو التحول من التدخّل الدولي إلى الانعزالية، ليعزز فكرة "ما يجري هناك يبقى" ولا دخل لأميركا به، اللهمّ إلّا من وجهة نظر زيادة ميزانية التسلّح الأميركية حتى قمة رأسها. فخلال ولايته السابقة، وعلى الرغم من الحديث المتشدّد لترامب ضدّ كل من روسيا والصين، لكنه، في حقيقة الأمر،كان يتركهما تفعلان ما تشاءان في محيطهما. وهذا ما بدّى مضمون موقفه الأخير من تايوان. فالقضية رئيسية بالنسبة للجمهوريين، سواء كانت التجارة أم الأمن، هي المصالح الأميركية المباشرة.
الأمر الثالث، هو التحول المدهش في الموقف من الطبقة العاملة، الأمر الذي جعلني أتحدث في مقدمة المقال عن تحولات تاريخية في الحزب الجمهوري. وبالعودة إلى ثلاثينات القرن العشرين، انحاز الحزب الجمهوري دائماً إلى مجتمع الأعمال في مجابهة الطبقة العاملة.
لكن أحد أبرز المتحدثين في المؤتمر لم يكن سوى ممثل اتحاد "تيمسترز" (Teamsters)، الذي يمكن أن نقول إنه الأكثر تشدّداً وتراجعاً بين النقابات الأميركية على الإطلاق.
ومن على مسرح المؤتمر الوطني الجمهوري، تحدث "تيمسترز" بشكل صارم ضدّ رجال الأعمال، واعتبر غرف التجارة مجرد دار للمسنين. وحقيقة الأمر إنه يتقاطع بشدّة في هذه الموضوعات مع أقصى اليسار في الحزب الديموقراطي مثل The Squad. والآن، ويا للعجب، تصبح هذه الموضوعات في صلب برنامج الحزب الجمهوري.
في حقيقة الأمر، تدخل الولايات المتحدة عصراً ذهبياً، بالنسبة للنقابات العمالية وللعمل العمالي المنظم. ذلك أن الولايات المتحدة بصدد مضاعفة حجم صناعتها، وسيكون نصف الوظائف الجديدة من ذوي الياقات الزرقاء.
ولا شك في أن قطاعاً واسعاً من الجمهوريين لا يؤيّد هذا التحول، ليصبح التساؤل الجوهري: أين يمكن أن يمضي الجمهوريون في نهجهم هذا؟ فمع دخول هذه البنود في صلب برنامجهم، يخاطر حزب ترامب الجمهوري بفقدان قاعدته بين مجتمع الأعمال.
ويطرح الحزب في برنامجه جملة من القضايا الجديدة، مثل تحدّي قوانين الحق في العمل في الجنوب الأميركي، وحيث تمنع تكساس أو تكافح مجرد وجود النقابات، ناهيك عن دورها. الآن، يصبح الحق في تشكيل النقابات جزءاً من البرنامج الرسمي للحزب. لا يمكنني الحكم عمّا إذا كانت هذه الموضوعات ستنجح في اختبار الزمن، إذ لم يمت بعد الجمهوريون التقليديون القدامى.
من جهة أخرى، لم يخلُ مشهد المؤتمر من دواعي السخرية، مثل غضب رون ديسانتيس، حاكم فلوريدا، من تسليط الضوء على نيكي هايلي، التي جاءت في المرتبة الثانية في الانتخابات التمهيدية بعد دونالد ترامب. وبدورها، بدت هايلي بائسة مربكة ومحرجة أمام صيحات الاستهجان من الجمهور، وهي تلقي خطاب تأييدها لترامب، لتبدو كزوجة سابقة، تُجبر على رفع نخب زوجها في عرسه من زوجة جديدة.
وليس أدلّ إلى غموض مآلات التحول في الحزب الجمهوري، من تبرعم مراكز الأبحاث الجديدة حوله، بهدف إعادة إنتاج النسخة التالية من التيار المحافظ الأميركي.
لا تبدو أن الطريق نحو نهج جديد معبّدة واضحة. بل لا يبدو الهدف متفقاً عليه. فإلى أين سيذهبون بعد نجاح ترامب؟ إذ لم يمت الحزب الجمهوري القديم، فيما يشكّل مايك بنس من جهته مركز أبحاث لإعادة انتاج التيار المحافظ، وكذلك ستفعل هايلي وديسانتس، لكن ما يهمّ ترامب هو ما سيحصل منذ هذه اللحظة حتى وصوله المحتمل إلى البيت الأبيض.
لم يصل أي من هذه التحولات إلى دورته النهائية، لذلك يبدو كل شيء غامضاً وفي تبدّل مستمر. لا أحد يستطيع أن يقدّر كيف ستكون الدورة الرئاسية القادمة، لكن المؤكّد أن أميركا بجمهورييها وديموقراطييها يتحولون من أعماق أحشائهم.
التعليقات