وعدنا، قبل أيام قليلة، أن نخصص وقفةً لما قاله الأديب البريطاني سومرست موم (1874- 1965) عن الأديب الروسي أنطون تشيخوف (1860 - 1904) في مقاله عن القصة القصيرة الذي ترجمه إلى العربية الناقد الراحل إحسان عباس، وتضمّنه كتابه «من الذي سرق النار».شهادة من أديب كبير في حق أديب كبير آخر من ثقافة أخرى، لم تكن غاية موم، فيها، كيل المديح لتشيخوف، ولكن لم يكن بوسعه إلا أن يقف عند أهمية منجزه في فن القصة القصيرة بالذات، ملاحظاً أنه كان تشيخوف بالذات أبعد الأثر في العالم الغربي بنشوء اتجاه جديد في إنشاء القصص القصيرة وتذوقها.«لم تكن قصص تشيخوف من النوع الذي يتيح لها أن تعاد على مائدة الطعام». هكذا يقول موم، وعدد الشخصيات التي خلقها تشيخوف قليل نسبياً، وهو قلما يعمد إلى حكاية ممتعة في ذاتها، ورغم ذلك فإن أجود قصص تشيخوف تبقى في الذاكرة مدة أطول من أية قصة ذات عقدة تهزّ المشاعر أو ذات شخصيات واضحة السمات.ظلّ موم حائراً في السبب الذي يجعل قصص تشيخوف تترك في نفسه أثراً وهو الذي يكتب قصصاً تغاير تلك التي يكتبها تشيخوف وتختلف عنها. فتلك القصص تجعل موم يشعر بأنّ كل شيء باطل، وكل شيء ينتهي إلى خيبة، وأن الناس ضعفاء تحت رحمة أحداث مشؤومة، ورغم ذلك يقرّ موم بأن أشخاص قصص تشيخوف من الواقع «بحق وحقيق» (هكذا ترجم إحسان عباس العبارة)، ولكننا لا نراهم وجهاً لوجه، بل نراهم وكأنّهم يقفون من وراء حجاب من طبيعتهم الإنسانية. شخصيات تشيخوف، برأي موم، كالظلال، بل ليس لها تلك الحدود التي للظل، بل هي كالبخار المتصاعد عن سطح البحيرة قبيل المساء، والذي يتلاشى وجوده في عتمة الغروب، ومع أنها ينقصها التمييز المرهف الدقيق لحدود الشخصية، فإن فيها إنسانية خفاقة راعشة، وكاحتمال فقط يقول موم إن عجز تشيخوف عن أن يمنح مخلوقاته تلك النبضة الخفاقة من الطبيعة التي تكسب هذه الشخصية حياة تفترق بها عن تلك هو السبب في تميّزه وتفرده.حول الأثر الكبير الذي تركه تشيخوف في فن القصة في الغرب، وهذا يصح أيضاً على غير الغرب، يلاحظ سومسرت موم أن في أحسن الأقاصيص الحديثة يستولي علينا الإحساس بالواقعية لم يقدر أحد من قبل على تأديته بمثل هذه الدقة، حتى نقول عندما نقرأها: «هكذا تحدث الأمور تماماً، ونؤمن بالناس الذين تناولتهم ونعرف مناظر الشوارع التي مشوا فيها، ونميّز رائحة بيوتهم»، وفي ما يشبه الخلاصة يقول موم: «الحال في القصة كالحال في الحياة: قلّما يتيسر لنا شيء إلا بالتضحية بشيء آخر».
- آخر تحديث :
التعليقات