د. خليل حسين
ظاهرياً يقوم نظام الحكم في بنغلاديش على النظام البرلماني، إلا أنها كغيرها من الدول الناشئة نسبياً، سيطر الجيش في العام 1975على مقاليد الحكم فيها بعد أربع سنوات على الاستقلال في العام 1971. وفي العام 1991 تمت استعادة السلطة من الجيش، وبدأت في النمو الاقتصادي، حتى باتت من أكبر مصدري الملابس الجاهزة في العالم، فضلاً عن عدد من الموارد المختلفة التي عززت من قدرات الدولة.
وعكس ما هو شائع من أن بنغلاديش تعتبر دولة فقيرة، إلا أن الواقع الاقتصادي مختلف بعض الشيء، فبنغلاديش تمتلك قدرات وموارد لافتة، تستطيع من خلالها تثبيت موقع ودور إقليمي في منطقة تعج بالمنافسات والشراكات الاستراتيجية، كما عوامل النزاعات والصراعات المتفاقمة ومن بينها بنغلاديش نفسها.
فبنغلاديش التي تصنف عملياً من الدول القادرة على أن تكون دولة إقليمية كبرى بالنظر لمساحتها التي تبلغ 147 ألفاً و570 كيلومتراً مربعاً، فيما يبلغ تعداد السكان 171 مليوناً و118 ألفاً، بحسب إحصاء يوليو/ تموز 2024. فيما وصل الناتج المحلي الإجمالي نحو 446 مليار دولار في العام 2023، وهو ما يمثل تراجعاً بعد وصوله لنحو 460 مليار دولار في العام 2022، إلا أن مؤشر الأداء الاقتصادي يشير إلى مسار تصاعدي من النمو بشكل شبه منتظم منذ الاستقلال، مع قفزات لافتة من بينها قفزة العام 2016 التي أوصلت الاقتصاد إلى 265 مليار دولار مقابل 195 في العام الذي سبقه.
ورغم ذلك، تراجع الناتج الفردي السنوي في العام 2023 إلى 2529 دولاراً بعد أن وصل إلى 2688 دولاراً في العام 2022، لكن المؤشر بشكل عام، يظهر أن الناتج الفردي ظل في مسار تصاعدي شبه منتظم هو الآخر منذ الاستقلال، فيما انخفضت نسبة البطالة لتصل إلى نحو 5% في العام 2023 مواصلة حالة الانخفاض المتتابع في السنوات الثلاث السابقة، أما التضخم، فقد وصل إلى 9.72% منتصف العام 2024، ويظهر المؤشر مساراً تصاعدياً منذ العام 2021، إذ بلغت النسبة 5.5%، ثم ارتفع إلى 7.7% في 2022 و9.5% في 2023 ؛ وفي العام 2023 كسر الدين الخارجي عتبة الـ 100 مليار دولار للمرة الأولى في تاريخه، مقابل 95.52 مليار في العام 2022 و90.79 في العام 2021، وبالتالي يظهر مؤشر الدين العام أنه ظل في مسار تصاعدي طوال العقد الماضي.
تظهر هذه المؤشرات الاقتصادية، أن ثمة مقومات مقبولة، لكن الواقع السكاني يشكل مستهلكاً ضخماً للمقدرات، علاوة على طبيعة النظام الذي يتفشى فيه الفساد بشكل واسع، علاوة على المؤشرات الاجتماعية السلبية كحالة التوتر وعدم الاستقرار جميعها أدت إلى ضعضعة النظام السياسي القائم أصلاً على أسس المغانم في إدارة السلطة والمقدرات، التي كانت من بين الأسباب الرئيسية لانفجار الوضع مؤخراً.
فعلى الرغم من التخفيف الظاهري لنسبة الثلاثين في المئة من نسبة الوظائف العامة المحددة للطبقة السياسية التي قامت بالاستقلال والتي رأستها حسينة واجد ومؤيدوها في القوى الأمنية والعسكرية ومختلف فضائل الدولة، فالنقمة الشعبية تفاقمت ضد الطبقة الحاكمة التي فاقمت أيضاً من استعمال القوة المفرطة في وجه المحتجين التي سقط منهم المئات، ما قاد الوضع نحو مسارات غبر قابلة للترميم، ما أجبر رئيسة الوزراء على الاستقالة بعدما غادرت عنوة إلى الهند.
إن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بنغلاديش ينذر بمتغيرات ليست واضحة، فليس ثمة معارضة حزبية قوية، ولا برامج سياسية تتيح انتقال السلطة بهدوء وسكينة، ثمة عوامل تغلي في الطبقات الاجتماعية التي يسودها العوز والفقر التي يقودها حالياً محمد يونس مؤسس «بنك الفقراء» الذي شكل حكومة انتقالية، وسط تأثير واضح للسلطة العسكرية والأمنية التي تمسك بزمام الأمور عملياً.
إضافة إلى ذلك، إن القوى التقليدية القديمة كرابطة عوامي لن تبتعد عن المشهد بل ستظل حاضرة، وحضورها سيعتمد على قدرتها على الصمود في وجه الانتفاضة الشعبية، أو تغيير مظهرها وأدواتها وتحديث بنيتها، وهو أمر غير متوفر عملياً في ظل المفاجآت التي تبرز يومياً حول ظهور قيادات وأشخاص طامحة للوصول إلى السلطة، ما يعزز المزيد من خلط الأوراق في بيئة تحتضن في الأساس الكثير من عوامل الانفلات.
إن الواقع الجيوسياسي لبنغلاديش متخم بعوامل التدخلات الخارجية، وهو نابع أصلاً من نشأة الدولة المنفصلة أصلاً عن باكستان التي فصلت أصلاً عن الهند بعد استعمار بريطاني لم يترك فرصة لتنمية الخلافات التي بلغت ذروتها في إقليم نووي، ووسط واقع اجتماعي تغزوه الصدامات العرقية والدينية، علاوة على شيوع الفقر والعوز، الأمر الذي يرخي بظلال كثيفة على دولة تمتلك معظم عوامل الانفجار وفي ظل واقع إقليمي ودولي يؤجج تلك المظاهر، علاوة على وضع عالمي ليس فيه متسع ولا نية أو إمكانية لحل مشاكل الدول، بل للأسف فيها الكثير مما يزيد الأمور تعقيداً.
مهمة رئيس الوزراء الجديد محمد يونس ليست سهلة فهو يحتاج إلى تأييد واسع من قبل المؤسسة العسكرية ومن مختلف القوى السياسية ومن الطلاب لإخراج بنغلاديش من أزمتها، ويحتاج إلى «خريطة طريق» كما قال لمباشرة مهمة الإنقاذ.
التعليقات