جمال الكشكي

هذه الأيام لا تشبه ما قبلها عبر التاريخ.. الشرق الأوسط يقاوم تحديات كبرى وموجات فاصلة لم تعتد عليها خرائطه. علامات الاستفهام تفرض نفسها: هل نحن في الطريق إلى نظام عالمي جديد، أم ملامح لشرق أوسط جديد، أم صورة أخرى مغايرة لهذا وذاك؟

القصة تحمل من الدراما السياسية ما يجعلها مطمعاً في سباق قائم الآن على قدم وساق، من أجل النفوذ والإرادة. الحروب تلف خرائط العالم، الحرب الروسية - الأوكرانية، بات عمرها الآن أكثر من عامين، ولا توجد بوادر لانفراجة قريبة بإيقاف الحرب، بل إنها تتخذ مسارات أكثر درامية، حسبما رأينا في الهجوم الأوكراني المباغت على «كورسك».

والدخول إلى الأراضي الروسية، وأيضاً بعد هجوم المسيرات على محطة زابورجيا النووية، وهو الخطر المقيم على العالم بأسره، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول جوهر وماهية هذه الحرب التي يبدو أنه لا يراد لها أن تتوقف، وكأنها ورقة استراتيجية يمكن استخدامها في ترتيبات أخرى قادمة.

بعد أكثر من عام ونصف العام، على حرب روسيا وأوكرانيا، اندلعت الحرب الإسرائيلية في غزة، وها هي الآن على بعد شهرين من اكتمال عامها الأول، وأيضاً لا تبدو لها نهاية في الأفق القريب، برغم كل المفاوضات والهُدَنْ، والتدخلات الدولية، والمحاكمات الجنائية الدولية، بما يجعلنا نفكر أيضاً أن هذه الحرب، هي ورقة أخرى في المخازن الاستراتيجية، يمكن استخدامها وإعادة تدويرها في أماكن أخرى.

اللافت للنظر أن حرب غزة، ذات المساحة الصغيرة (365 كيلومتراً مربعاً)، جمعت أركان العالم كطرف أصيل فيها، سواء بدعم مباشر لإسرائيل، كالولايات المتحدة الأمريكية، والغرب، أم بمشاهدة حيادية من قوى عالمية أخرى، لا تستطيع فعل أي شيء إزاء الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، أو العناد الإسرائيلي في تل أبيب، مع دخول أطراف إقليمية تنخرط في هذه الحرب لمصالح استراتيجية عليا، قد لا تكون مفيدة لقضية سلام الشرق الأوسط، لا شك أن الفلسطينيين دفعوا أثماناً باهظة، لكنهم متمسكون بعدالة قضيتهم.

في مكان آخر من قلق خرائط الشرق الأوسط، نتوقف أمام الحرب السودانية - السودانية، فقد اختلف الأشقاء، في بلد لم يتوقف عن الحرب منذ أكثر من أربعين عاماً، أي إنه قضى ثلثي عمره بعد الاستقلال عام 1956 في قتال ضار قاد إلى انحراف بوصلة البلاد، وفتح الأبواب للتدخلات الخارجية التي تحاول أن تجعل من الحرب في السودان مسرحاً لتصفية الحسابات، وإقامة نفوذ ومصالح استراتيجية لهؤلاء المتداخلين، ولا تزال الحرب مستمرة في السودان، ولا يزال الأمل معقوداً على وجود مخرج لإيقافها.

حزام النيران حول خرائط المنطقة، يصل بنا إلى بلاد عمر المختار، حيث تقع ليبيا منذ ثلاثة عشر عاماً في دوامة من العنف، والحروب الأهلية، والصراع على النفوذ واستدعاء القوى الخارجية للتدخل في الشأن الليبي، والسيطرة على موارد ليبيا الاقتصادية، واتخاذها محطة للعبث بمقدرات الأمن القومي العربي، حيث إن ليبيا تشكل قاعدة المثلث الذهبي المتمثل في مصر، وليبيا، والسودان، وبالتالي فإن خرائط الاستقرار الليبي تتمزق بفعل الشد والجذب بين الشرق والغرب.

نوع آخر من الحروب، تلتهم خرائط الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال ثمة ميليشيات تتصارع في كل من: سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان، وهذه الميليشيات تهدد وجود الدولة الوطنية في جميع مساراته، فهذه الميليشيات تطل علينا بين حين وآخر باتخاذ قرارات تتعلق بالحرب والسلام من دون الرجوع إلى عقل وقلب الدولة الوطنية، وهو خطر لا يقل أثراً عن خطر الحرب الأهلية والحرب الخارجية.

إذن، وسط البانوراما، التي تغرق في رائحة البارود، نجد أنفسنا في سباقات استراتيجية، يتحول فيه الشرق الأوسط، إلى مخزن استراتيجي للسلاح العالمي من كل صنف، وأكاد أقول إن العالم أفرغ مخازنه من السلاح وأتى بها إلى هذا الشرق الجريح، ولذا فإن هذه الأيام من عمر الإقليم تحتاج إلى تصرفات استثنائية قبل أن تدخل خرائطه في مرحلة أكثر تعقيداً وربما يكون الخروج منها أكثر كلفة.