ما زلتُ أقول بتفردِ بيتِ الصِّمَّةِ بن عبد الله الشقيري، حين قال:

بَكَتْ عَيْنِي اليسرى فلمَّا «زجرتُها»

عن الجهلِ بعد الحلمِ أسبلتَا معَا

وقد توقَّفتُ بفضلِ اللهِ في البيت على معنى في غايةِ اللطف.

فإنَّ الشاعرَ اختار في البيتِ السابق، الإفادة بأنَّ لُبَّ الموضوعِ في البيتِ، بخاصةٍ وقفُ بكاءِ عينِه اليسرى التي حدَّثنا عن بكائِها، بالفعلِ الماضي (بكت) لكنَّه في باقي البيت أكَّد أنَّ «بكت»، باعتبارها ماضياً، لا تفيد أنَّها بكت، وتوقَّفت عن البكاءِ بالضرورة، وبمَا في باقي البيتِ من معنى تبيَّن استمرارُ بكاءِ عينه اليسرى، وانضمامُ عينِه اليمنى إلى مثيلتِها في البكاء، لكنَّ ارتفاعاً تحقَّقَ في كميةِ الهطول، وهو ما عبَّر عنه الشاعرُ بقوله: أسبلتَا (أي أسبلتِ العينُ اليسرى وأسبلتِ العينُ اليمنى)، فاليمنَى واليسرى، لأنَّهما مثنى، أسبلتَا معَا.

وإسبالُ العينين معاً لم يفتحْ للشَّاعرِ مجالاً للاعتراض ولا للعتاب، ولا لتبنّي أيّ موقفٍ مخالفٍ لمَا ذهبتْ إليه العينان عملياً، من البكاءِ معاً بدموعٍ سخية، من معينٍ نقيٍّ خلافاً لما يحدثُ في الحالاتِ العامةِ، حيث يجلبُ سَحُّ السائلِ نهاياتٍ تتميَّزُ بالكدرِ وعدمِ الصَّفاء، وكأنَّها نهايةُ حثالاتِ دلَّةِ قهوةٍ أُشبعت بالزَّعفرانِ والهيلِ وحبوبِ القهوةِ القاسية الممتلئةِ المكتحلةِ بسوادِها في جسدِها كلّه، لا في موطنِ المحل في العينِ فقط!

غَضِبَ الحبيبُ فهاجَ لي استعبارُ

واللهُ لي ممَّا أحاذرُ جارُ؟

منْ ذا يعيرُك عينَه تبكي بهَا

أرأيتَ عيناً للبكاءِ تُعَارُ؟!

وحبَّبني في العباسِ بنِ الأحنف نزوعُ معاني جلّ شعرِه باتجاه الحكمةِ والمثلِ والتجاربِ العميقة، وتصديرِ الإنسانية المشبعة، في قوالبِ أبياتٍ عذبة السَّكب، معذبة المعنى، سلسةِ الكلمات، وبين العذوبة والعذاب والسَّلاسة، تنتقل الأفكار، والأشاطر وتضاعف التجارب والأعمار.

و«مَنْ لم يمتْ بالسيف ماتَ بغيره

تعدَّدتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ».