فارس خشان

بعد يومين فقط على إسقاط الجيش الإسرائيلي ثلاث قنابل خارقة للتحصينات على بلدة كفركلا المحاذية لشمال إسرائيل، والكلام الكثير الذي قيل عن مزاياها في تدمير الأنفاق في الطبيعة الصخرية الجبليّة، نشرت، أمس، "المقاومة الإسلامية في لبنان" (الجناح العسكري لـ"حزب الله") فيديو دعائياً عن واحد من الأنفاق الضخمة لاستعراض منظومة صاروخية تحمل اسم "عماد 4"، نسبة إلى عماد مغنية، القائد العسكري السابق لهذه "المقاومة" الذي اغتيل في أهم أحياء سوريا الأمنية عام 2007.

لم يسبق لـ"حزب الله" أن استعمل هذه الصواريخ التي استعرضها في الفيديو الترويجي في أيّ عملية قصف، فيما لم يسبق لإسرائيل أن استعرضت القنبلة التدميرية التي استعملتها ضد كفركلا، في أيّ من عملياتها الدعائية.

وهذه المفارقة التي يسجلها المراقبون ليست عابرة، إذ يبدو واضحاً أنّ الحزب يفضل "الحرب النفسية" في سياق "حرب الاستنزاف" فيما إسرائيل تفضل أن تستعمل "الحرب النفسية" كجزء لا يتجزأ من "الحرب الميدانية".

ولهذه الفوارق بين أولويات إسرائيل، من جهة، وأولويات "حزب الله" من جهة أخرى، أسباب كثيرة لعلّ أهمها على الإطلاق الخلل في ميزان القوى بين الطرفين، إذ تملك إسرائيل قدرات تدميرية هائلة فيما يملك "حزب الله" قدرات "الأذية".

ولا يمكن في هذا الإطار تجاوز حدث عسكري صارخ حصل في الأشهر السابقة، إذ إنّ "حزب الله" أثبت قدرته على إلحاق الأذية بسلاح الجو الإسرائيلي، عندما تمكنت صواريخ أرض - جو يملكها من إسقاط خمس طائرات من دون طيار إسرائيلية، لكنه، منذ 12 حزيران (يونيو) الماضي توقف عن ذلك، من دون أي تفسير، فيما رفع سلاح الجو الإسرائيلي من منسوب عملياته في الأجواء اللبنانية، وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت حيث اغتال في آخر تموز (يوليو) القائد العسكري لـ"المقاومة الإسلامية في لبنان" فؤاد شكر، في قلب حارة حريك التي تعتبر عاصمة "حزب الله"، وفي عز استنفار "حزب الله" واتخاذه أقصى الاحتياطات الوقائية في وجه تهديدات إسرائيل بالرد على صاروخ أحدث مجزرة في بلدة مجدل شمس الدرزية في الجولان.

وهذه الفوارق بين قنابل كفركلا التي يُطلق عليها مصنّعوها تسمية "مارك 84" وفيديو "عماد 24"، مثلها مثل الفوارق بين قدرات الاستخبارات الإسرائيلية وقدرات "حزب الله". الأولى قادرة على الوصول إلى من تشاء من القيادات العسكرية لـ"المقاومة الإسلامية في لبنان" فيما استخبارات "حزب الله" التي تستعرض قدراتها عبر تصوير من الجو بواسطة مسيّرة سمّتها "الهدهد"، تبقى عاجزة عن الوصول إلى هدف نوعي يمكّنها من الانتقام لاغتيال شكر، في وقت معقول، من دون أن تتسبب بحرب. قدرات "الهدهد" تثير القلق في إسرائيل، ولكن قدرات الاستخبارات الإسرائيلية تنشر الموت في لبنان!

هذا التمييز الجوهري بين قدرات التدمير وقدرات الأذية، يعرفه عن كثب المسؤولون اللبنانيون عموماً والوسطاء الدوليّون. الجميع يدركون أنّ الخسائر، ولو كانت مؤلمة، تبقى مقبولة ما استمرت المناوشات الحدودية تحت "عتبة الحرب" ولكنها لا تعود كذلك إذا تدحرجت نحو مواجهة ضخمة، لأّن المتطلّع إلى وضع حد لنهج الأذية يتحوّل إلى استعمال قوته التدميرية.

وفي حالة تدحرج المواجهات بين الجيش الإسرائيلي و"حزب الله" إلى وضعية الحرب، فإنّ تل أبيب التي تضع هذه المرة أهدافاً متواضعة نسبياً، تقتصر على تأمين عودة آمنة للسكان إلى شمال البلاد، ما يقتضي إبعاد القوة العسكرية لـ"حزب الله" إلى ما وراء الضفة الشمالية لنهر الليطاني، وفق فهمها للقرار 1701 الذي يعطي الولاية العسكرية على المناطق الحدودية للجيش اللبناني المدعوم بـ"اليونيفيل"، سوف تلجأ إلى التدمير المنهجي الضخم، لدفع اللبنانيين عموماً وصنّاع القرار خصوصاً إلى إجراء مقارنة ضاغطة على "حزب الله" بين "كلفة الحرب"، من جهة، و"تواضع المطالب"، من جهة أخرى.

وينصح الوسطاء الدوليون المسؤولين اللبنانيين الذين ليسوا بالنتيجة سوى صندوق بريد معتمد من "حزب الله"، بأن يجنّبوا بلدهم المتهاوي أصلاً، "كأس السم" بفتح مفاوضات من شأنها تطبيق القرار الدولي الذي يبقى أفضل ما يمكن أن يحصل عليه لبنان من المجتمع الدولي. في اعتقاد هؤلاء الوسطاء أنّ ما تبقى من شهر آب (أغسطس) هو التوقيت الزمني للانتقال من حافة الخطر إلى هامش الأمان، وذلك بسبب حلول الموعد السنوي لتمديد ولاية "اليونيفيل" ومراجعة أدائها ومناقشة فاعليتها.

ولكنّ "حزب الله" يبقي نفسه في دائرة الغموض، لأنّه ربط مصير لبنان بمصير غزة، من جهة، ولأنّه، منذ اغتيال زعيم "حماس" إسماعيل هنية في إيران، أصبح كلياً بعهدة مصلحة إيران، من جهة أخرى!

ولهذا، فإنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، بعد لقاءين منفصلين جمعاه بكل من الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين ووزير الخارجية الفرنسية ستيفان سيجورنيه اللذين زارا لبنان تباعاً، لم يجد ما يقوله، وهو يقارن قدرات الأذية عند صاحب القرار الحقيقي في لبنان، أي "حزب الله" بقدرات التدمير المتوافرة لدى إسرائيل، سوى العبارة الآتية التي تحمل في طياتها الكثير من المعاني: "في هذه الفترة الصعبة التي نمر بها لا يمكن إلّا أن نتحلى بالصمت والصبر والصلاة".