محمد حسين أبو الحسن

يحتدم الصراع بين الدول لامتلاك تكنولوجيا صناعة "الرقائق الإلكترونية"؛ من يهيمن على تلك التكنولوجيا يسيطر على العالم. التكنولوجيا سلاح ثقيل حاسم بأيدي الدول المتقدمة، تعطيها أفضلية على الدول التي تحتاجها؛ هنا تتلاشى الحدود بين التكنولوجيا والسياسة، في عالم تتحدد ملامحه على وقع التطبيقات التقنية. النظام العالمي يوماً بعد يوم، تتضخم شركات التكنولوجيا العملاقة إلى قيم تريليونية، ويتضخم معها دورها على مسارح الاقتصاد والسياسة الدولية، بصورة يصعب تخيلها. اقتحمت التكنولوجيا حياة كل إنسان على سطح الكوكب بصورة أو أخرى، في عالم معولم، يتسم بدينامية عالية. تتدفق كل دقيقة كميات هائلة من الأفكار والبيانات والأموال والسلع والأشخاص عبر الحدود، ما يخلق تحولات بالغة في هياكل السلطة والحكم، بل وآليات النظام العالمي كما لم نعهده من قبل. شركات التكنولوجيا بطبيعتها كيانات عابرة للوطنية، تتمرد على القيود وتحلق عالمياً. تقارب القيمة السوقية لشركة "آبل" ثلاثة تريليونات دولار، و"مايكروسوفت" 2.8 تريليون دولار، ثم "فايسبوك" بنحو تريليون دولار. يبلغ عدد مشتركي "فايسبوك"2.7 مليار شخص، أي أكثر من سكان أي دولة. صارت شركات التكنولوجيا لاعباً كبيراً في واشنطن، تفرض أجندتها. ذكرت بيانات وزارة العدل الأميركية أن كبرى شركات التكنولوجيا وظفت كثيراً من المسؤولين السابقين للعمل في إدارة العلاقات مع الحكومة، وأنفقت "فايسبوك" 25 مليون دولار على "شركات اللوبي" العام الماضي، لتمرير أجندتها والحفاظ على مصالحها الاحتكارية. هنا تظهر إشكاليتان، الأولى أن مديري شركات التكنولوجيا العملاقة ليسوا قادة منتخبين، ربما يجهلون السياسة لكنهم لا يستطيعون تجنبها. في الوقت نفسه يترنح النظام العالمي القديم، أمام نظام عالمي جديد لا تحكمه إلا سرعة الابتكار التكنولوجي والإخضاع؛ في صورة مبتكرة يتم الترحيب بها طوعاً من مليارات البشر حول العالم. تتهاوى التصورات القديمة حول النظام العالمي التي صاغها هنري كيسنجر أو صمويل هنتغتون أو نعوم تشومسكي أو غيرهم؛ لم تعد صالحة لعالم اليوم ولا تستجيب لتحدياته؛ يكفي أن نتذكر الشلل الذي أصاب العالم نهاية الشهر الماضي، نتيجة عطل تقني في أحد تطبيقات "مايكروسوفت"؛ ما أثر بشدة على كثير من الدول. حرب الرقائق الإشكالية الثانية هي دور التكنولوجيا الأساسي في تحديد مستقبل موازين القوى بين الدول الكبرى، مثلما تؤثر السياسة على التكنولوجيا بعدة طرق. تحدد العلاقات السياسية بين الدول الطريق الذى تتخذه كل دولة فى إدارة شؤونها التكنولوجية، كما تؤثر السياسة على التكنولوجيا بطريق غير مباشر، أي الاقتصاد. يعتمد الطريق من العلم إلى التكنولوجيا على الاقتصاد؛ ريادة أعمال وشركات إلخ، وتلك تتبع سياسات الدولة، في المقابل حدث ولا حرج عن تأثير التكنولوجيا على السياسة. باتت التكنولوجيا المتقدمة سلاحاً فى يد الساسة. إتاحة هذه التكنولوجيا لأطراف أخرى أو حجبها عنهم أداة تحكم استراتيجي هائل؛ المثال الساطع في هذا السياق هو "حرب الرقائق" الدائرة بين أميركا والصين. الرقائق هي النفط الجديد، المصدر النادر الأكثر حيوية الذي يعتمد عليه العالم الحديث. منعت إدارة أوباما تصدير رقائق شركة "إنتل" الأميركية إلى الصين، وتبعتها إدارة ترامب، وفرضت إدارة بايدن عقوبات على القطاع التقني الصيني، ممثلاً في شركات "هواوي" و"تيك توك"، إلخ؛ ما أعاد رسم خريطة الأولويات التكنولوجية الصينية، سعياً لإغلاق الفجوة التقنية مع أميركا. صدر كتاب بعنوان "حرب الرقائق" في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، ألفه كريس ميللر أستاذ التاريخ الدولي في جامعة تافتس بأميركا، وشرح فيه ما يحدث على الساحة الدولية حالياً بين الدول الكبرى، بالأخص أميركا والصين. تتنافس الدولتان على الهيمنة التكنولوجية، فلفترة طويلة كانت أميركا في صدارة تطوير التكنولوجيات (الحيوية، والنانو، والمعلومات) الروافع الأساسية للنمو الاقتصادي، بيد أن الصين صارت أقوى منافس لأميركا في ميادين التكنولوجيا، خاصة الذكاء الاصطناعي. تستثمر بكثافة في البحث والتطوير لانتزاع الريادة العالمية. الصراع التقني الأميركي - الصيني هو لب التوترات التجارية والجيوسياسية الدولية في السنوات الأخيرة، يسعى كل منهما للسيطرة على الصناعات الراقية؛ خاصة الرقائق وأشباه الموصلات؛ بوصفها أحد الأعمدة الأساسية لأي من الاقتصادات الكبرى. تدخل "الرقائق" في صناعة كل شيء تقريباً، من الهواتف والحواسيب والسيارات إلى الأسلحة المتطورة والذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء، وغيرها. التعليم... التعليم ونظراً لما تحوزه من مؤهلات، تلعب تايوان دوراً محورياً في معركة الهيمنة التكنولوجية، بل تكاد تكون هي أساسها. لا ندّ لها في صناعة أشباه الموصلات، بلد حيوي للغاية لأميركا وللصين كذلك، تتحكم في الرقائق الأكثر تقدماً؛ أي مستقبل التكنولوجيا بالكوكب، تستحوذ شركة "تي إس إم سي" التايوانية على 50% من السوق العالمية، وهي المورد الرئيسي للرقائق التي تدخل في تصنيع أكثر الأجهزة تطوراً، من هواتف "آيفون" وحتى طائرات "إف-35" الأميركية. ولو اقتحمت الصين تايوان وضمتها إليها، فمن الممكن أن تسيطر على إمدادات الرقائق؛ ما يقلص مزايا التفوُّق التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية والسياسية الأميركية، أو أن تُدمَّر مصانع الرقائق في خضم الحرب. وتلك كارثة عالمية بكل المقاييس، تعيد أجواء "الكساد الكبير" خلال عشرينيات القرن العشرين. قدرت "مجموعة بوسطن للاستشارات" أن انقطاع توريد الرقائق التايوانية، لمدة عام واحد، سيكلف شركات التقنية العالمية نحو 600 مليار دولار، بالإضافة إلى التأثيرات السياسية والاستراتيجية شديدة الخطورة. هذا يقول لكل ذي بصيرة إن التكنولوجيا ليست رفاهية بل ضرورة حياتية للأفراد والشعوب؛ تدرك الأمم الحية هذا القانون وتعمل به، تعلم أن التكنولوجيا تنبت في دور العلم والجامعات والمختبرات، بمساعدة من الاقتصاد والإدارة والسياسة. العلم يأتي من التعليم الجيد الذي هو الركيزة الأساسية لامتلاك التكنولوجيا الراقية، بمعنى القوة الناعمة والخشنة لأي دولة بصيرة. إن "التعليم المتميز" للجميع مسألة أمن قومي، قبل أي اعتبار آخر، وخصوصاً عندما يكون أمن الوطن على المحك، تلك حقيقة تتجاهلها معظم الدول العربية التي تعاني تخلفاً علمياً وتقنياً واضحاً، إن الرضا عن الذات يشكل خطراً على الشعوب والأفراد، تماماً مثل انعدام الثقة أو المبالغة في ردود الفعل المدفوعة بمخاوف مُـبالَغ في تقديرها، من ثمّ نحتاج دوماً إلى نقطة بداية وإكمال المسيرة. ربما تكون السعودية والإمارات بدأت تتلمس طريقها لامتلاك "الرقائق" الإلكترونية والإسهام في إنتاجها، وهي نفط القرن الحادي والعشرين، ما قد يكون نقطة ضوء في نهاية النفق!