فارس خشان

يستيقظ الإسرائيليون وينامون على ألف انتقاد وشتيمة لرئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو، بسبب ما يعتقدون أنه إدارة سيئة لقرار الحرب والسلم ونوعية العلاقة "التواطؤية" التي أقامها مع حركة "حماس" منذ عام 2014 حتى الهجوم على غلاف غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وتمتلئ طرقهم الرئيسية بتظاهرات ضخمة، في تجاوز لافت لما يُسمّى بضرورة التصدّي لحرب تستهدفهم من "سبع جبهات".

في المقابل، يستيقظ اللبنانيون وينامون على ألف تحقير وشتيمة لكل من يحاول، بألطف ما أنعمت به القواميس من الكلمات، أن يسجّل موقفاً اعتراضيّاً على تخلّي السلطات الدستورية عن دورها الدفاعي لـ"المقاومة الإسلامية في لبنان"، أحد أعمدة "جبهة المقاومة" بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران.

يعرف الإسرائيليون أنّه، حين تضع الحرب أوزارها، ومهما تكن نتائجها النهائية، لن ينجو أيّ مسؤول حالي وسابق من المحاسبة والمساءلة. هم لا يتطلّعون فقط إلى ما سوف يفعلونه في صناديق الاقتراع، بل إلى المؤسسات التي انتدبتها الديموقراطية للقيام بهذه المهمّة، مثل لجان التحقيق المستقلة والمحاكم المختصة. في المقابل، يدرك اللبنانيون أنّه، مهما كانت نتيجة "حرب المساندة" التي قرّرها "حزب الله" بقرار منفرد، فسوف يقيم مهرجانات الانتصار وينصب المحاكم الميدانية لمساءلة كل من عارض واعترض، وواجه وانتقد، ويُنشئ منصة لتوزيع الأوسمة على "الشرفاء" الذين سلّموه قرارهم وإرادتهم وألسنتهم وحناجرهم!

عندما تنتهي هذه الحرب، لن تكون القدس قد تحرّرت، ولن يكون "المسجد الأقصى" قد أصبح تحت السيادة الفلسطينية، ولن يؤمّ الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله الصلاة فيه، بعدما يعبر إليه من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ولن يسجد في الصفوف الأمامية يحيى السنوار، بل ستكون غزة تناضل من أجل استعادة نفسها من السيطرة الإسرائيلية، وإقامة المدافن لعشرات آلاف الضحايا، والخيم لمئات آلاف السكان، والبحث عن موارد مالية وغذائية واستشفائية لإدارة حالة غير مسبوقة من التشرّد والفقر والحاجة والمرض.

وعندما تنتهي هذه الحرب، لن تكون "اتفاقيات إبراهيم" قد انقلبت إلى عداوة داود وجوليات، ولن تكون الولايات المتحدة الأميركية قد حوّلت "بُنوَّتَها" لإسرائيل إلى خصومة، ولن تغلق واشنطن سفارتها في القدس، ولن يوقف العالم تدفق أموال اليهود وداعميهم إلى تل أبيب، ولن تبخل مصانع العالم على مخازن الجيش الإسرائيلي بما ينقصها من أحدث الأسلحة وأقوى الذخائر.

وعندما تنتهي هذه الحرب، سوف يتغيّر اللاعبون في إسرائيل، فيما ينكبّ طاقمها السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والمالي والاستثماري الجديد على استخلاص العبر من الماضي لبناء مستقبل أفضل، فيما سوف تتدهور في بلادنا أكثر وأكثر، لتلائم العظمة التي يرجوها اللاعبون أنفسهم الذين استبدلوا الأنفاق بالوطن، والجبهة بالدولة والشهيد بالمواطن والتأبين بالمهرجان. هؤلاء أدرجوا أنفسهم في خانة الكبار، ورموا منتقديهم في "نادي الصغار".

باسم "الأقصى"، استدعت "حماس" إسرائيل إلى حرب وجود، فلم تحرّر المسجد فيما دُمِّرت غزة عن بكرة أبيها. و"على طريق القدس"، قضى مئات الشباب تحت راية "المقاومة الإسلامية في لبنان"، فحصّنت إسرائيل نفسها في القدس، ليتحوّل الهدف عن الشعار، لأنّ الطموح الأسمى تحوّل من شق الطريق نحو عاصمة الأنبياء إلى الضغط على العالم لوقف إطلاق النار في غزة وعليها.

قد لا تربح إسرائيل هذه الحرب، وقد تعجز عن ذلك، مهما فعلت، لأنّ مشكلتها كانت وستبقى مع الشعوب الصامدة وحقوقها الثابتة، لكن ما هو مؤكّد أنّ "جبهة المقاومة" انهزمت، وانقلبت شعاراتها عليها. هذه الجبهة لم تتسبب بالكوارث للأوطان التي تعمل فيها فحسب، بل ألحقت الضرر بالقضية التي تزعم الدفاع عنها، أيضاً!

لو كان للبنانيين شيء من القدرة على التعبير المتوافرة للإسرائيليين، لكانت الخسائر أقل والأرباح أكبر، بالتأكيد، لأنّه كانت للسلطة التي انتزعها "حزب الله" لنفسه حدود... حدود تضطره إلى فعل كل ما أمكن ليتجنّب المساءلة، والغضب الشعبي، والانتقادات اللاذعة، ومحاسبة المرجعيات. لكان موقفه أقوى أمام إيران نفسها، لأنّ قدرته على خدمتها ليست "استنسابية".

الوحدة الوطنية، في هذا النوع من الحروب التي هي، مهما قيل فيها وعنها، ليست سوى خادمة للآخرين، بدل أن تكون عامل قوة تتحوّل إلى عامل ضعف، لأنّها لا تقيم اعتباراً للخسائر، بل جلّ همّها ما تلحقه من أضرار بالعدو.

لو كان للصوت الاعتراضي أي قيمة، لكانت هذه الحرب التي تورط فيها لبنان قد انتهت، لأنّها فقدت مقوّماتها بثبوت عجزها عن تحقيق الحدّ الأدنى من شعاراتها. فدعم غزة استحال وهماً، في ظل ما حلّ ويحلّ بها، والوصول إلى القدس تعقّدت طريقه أكثر مما كانت معقّدة، وتحرير "ما تبقّى من أرض" تهاوى، وتوفير الأمان للجنوبيين أضحى تلالاً من الركام وأميالاً من القبور!