محمد صلاح

طبيعي أن يسأل المواطن العربي الداعم للفلسطينيين، والراغب في وقف الجرائم الإسرائيلية، ووضع حدّ لمعاناة من تبقّوا في قطاع غزة، الذي يدفع أهله ثمن ما جرى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وهو يتابع أنباء تعثر المفاوضات التي ترعاها مصر وقطر والولايات المتحدة، بهدف التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى والرهائن، والزيارات المتلاحقة والرحلات المكوكيّة لمسؤولين غربيين للمنطقة، على خلفية حثّ الطرفين، إسرائيل وحركة "حماس"، على تقديم تنازلات لإتمام الاتفاق، عن المدى الذي يمكن الطرفان المضي فيه إذا أفضت تلك الزيارات إلى لا شيء، وفشلت جولة المفاوضات الجديدة كما فشلت الجولات السابقة.

يبدو التساؤل مهمّاً في هذه المرحلة، بالنظر إلى أن الدول الغربية التي عانت أوضاعاً شعبية داخلية داعمة للفلسطينيين، صارت كأنها الآن تتعاطى مع الوضع المتفجّر في المنطقة مثلما يجري التعامل مع أزمة لصفقة تجارية، أو علاج خلاف حدودي، أو تباين في المواقف تجاه حادثة وقعت لمواطن أو أكثر من رعايا دولة ما في دولة أخرى!

بين جولات المفاوضات ورحلات المسؤولين الغربيين إلى المنطقة، يقع مئات، أو قل آلاف الفلسطينيين، ضحايا آلة الحرب الإسرائيلية، وتتسوّى بالأرض باقي البيوت، وتُقصف هياكل المستشفيات والمدارس التي أوى اليها النازحون، فيموتون فوق جثث ذويهم، وتحت أنقاض جديدة وتحت المساكن المهدّمة أصلاً. وبينما تسطع الأنوار وتسجّل العدسات المؤتمرات الصحافية وتنقل تفاؤل الزوار من الوزراء والمسؤولين الغربيين للمنطقة بقرب التوصل إلى اتفاق، لا يقتنع المشاهدون أو المستمعون بأن حمّام الدم سيتوقف قريباً، إذ يدركون أن الطرف الباغي لا يزال متعطشاً لمزيد من الدماء... والوقت.

نعم. تتمّ الزيارات والجولات المكوكيّة بينما تزداد إسرائيل تعنتاً، وحكومة نتنياهو مستمرة في تسخين المستوطنين وتهيئة الإسرائيليين لحرب طويلة الأمد، ولا تكترث بنشاط أهالي الرهائن أو احتجاجات المتعاطفين معهم، إذ لديها رصيد كافٍ من المتطرّفين بعدما نجح نتنياهو، بخطاب الكراهية ضدّ الفلسطينيين، في دفع المجتمع هناك إلى المزيد من التطرّف، وزيادة المساحة التي يتحرك فيها اليمين المعادي للفلسطينيين والعرب، ذلك المجتمع الذي لم يتحفّظ على الاغتيالات المتتالية لقادة "حماس" ورموز "حزب الله"، بل أبدى تعطّشاً أكبر للقتل والاغتيال، والدعوة إلى إنهاء الوضع المتوتر في الشمال.

للدول الغربية مواقف معروفة في شأن القضية الفلسطينية عموماً، بعضها يتعاطى معها باعتبارها من منغصات الحياة، أي من دون موقف حاسم ضاغط على الطرف الإسرائيلي إلّا في الحدود التي لا تُغضب إسرائيل أو تُربك الخطط والسياسات الأميركية في المنطقة، وبعضها الآخر مشغول على مدى سنوات طويلة بالبحث عن مخارج سياسية مقبولة للعرب والفلسطينيين وإسرائيل ولا يحقق أي تقدّم. والمهم أن مسؤوليها يأتون إلى المنطقة ويزورون إسرائيل، ولا يفصل بينهم وأماكن إقامتهم فيها كيلومترات قليلة عن مذابح تُرتكب ضدّ الفلسطينيين، وعن انتهاكات لكل المبادئ التي تدّعي تلك الدول ذاتها أنها قامت عليها وناضلت من أجل نشرها والحفاظ عليها.

بين معضلات الوضع في المنطقة، تأتي إيران التي تدعم محور "الممانعة" والمقاومة الفلسطينية، لكنها لم تردّ بعد على اغتيال إسماعيل هنية، وكذلك لم يفعل "حزب الله" انتقاماً لاغتيال فؤاد شكر، بينما يُطالع الناس الأنباء عن غرق لبنان في الظلام بعد تعطّل محطات الكهرباء انتظاراً لوصول شحنات الغاز من مصر، التي تستعد لاستقبال وفود التفاوض في مرحلة جديدة، من دون أن تتوقف منصات المحور "الممانع" وحركة "حماس" عن انتقادها، بل والتحريض على المسؤولين فيها، فينتبه الناس إلى أن الدعم الإيراني يقتصر على السلاح من دون البنية التحتية أو التنمية أو ما يفيد المجتمع في لبنان أو غزة أو أي مدينة أو دولة عربية، فيترسّخ الاعتقاد بأن ما يهمّ إيران هو أن تكون أقوى مما هي عليه، وبأن الولايات المتحدة تحاول أن تبقي إيران على ما هي عليه، وبأن وقائع ما جرى على مدى عقود يشير إلى أن أميركا لم تسعَ لإسقاط أي نظام حليف لإيران، بينما ساعدت في إسقاط - أو أسقطت بنفسها - أنظمة كانت معادية، أو قل غير حليفة لإيران. كما أن الأميركيين لم يتمكنوا حتى الآن من القضاء على أي تيار موالٍ لإيران، بينما دخلوا في حروب مباشرة مع جماعات وتنظيمات معادية لإيران وقضوا على بعضها. وكأن بقاء إيران قوية وأذرعها نشطة أمر لا يقلّ أهمية بالنسبة إلى الأميركيين عن استمرار التفوّق الإسرائيلي الذي يُقلق العرب بالقدر نفسه الذي يتسبّب فيه وجود المارد الإيراني، حتى لو كانت الوقائع تشير إلى أنه مجرد مارد من ورق.

‏نعم. لم تنجح إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية: فلم تستطع أن تقتلع المقاومة، ولم تفرض سيطرتها الكاملة على قطاع غزة، ولم تتمكن من استعادة الرهائن، ولم تنجح في تحقيق الهدف المركزي للعدوان وهو التطهير العرقي لسكان غزة أو تهجيرهم إلى سيناء... لكنها سحقت البنية التحتية للقطاع وشرّدت أهله ويتّمت الأطفال وذبحت الآباء والأمهات، وجعلت "حماس" وباقي فصائل المقاومة تتمنى العودة إلى ما قبل "طوفان الأقصى" ولا تستطيع، وأرعبت المجتمع الدولي من حرب إقليمية يخشاها، ووضعت المتنافسين في الانتخابات الأميركية المقبلة في سباق على حمايتها وتسليحها... وتدليلها.

وعندما "يشغّل" المواطن العربي عقله، ويستعيد بعض الأحداث والمواقف، يُدرك أن لا مفاجأة في نتائج "طوفان الأقصى". وعلى الرغم مما يبدو من صدمة لدى البعض، فإن كلّ مواطن عربي يتمنى انتصار الفلسطينيين عسكرياً على إسرائيل، وتحرير قطاع غزة وباقي الضفة الغربية بالحرب، لكنّ هناك فرقاً بين الأمنيات والواقع الذي ترسم ملامحه موازين القوى وظروف كل طرف، والمعضلات الدولية والمواقف الغربية والحدود التي قد تسمح بها الولايات المتحدة، وما تعتبره أي إدارة أميركية من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها.