أصابت الهدية / العفو الملكي بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة و العشرين على تربع جلالة الملك محمد السادس - أصابت في مقتل - العديد من وكلاء الاجندات الخارجية والغير الوطنية بهستريا قوية وبإسهال حاد خاصة على صفحات التواصل الاجتماعي، وحاولوا التسويق لهذا العفو الملكي وكأنه جاء تحت "ضغط دولي" أو أن المغرب وقع قرار العفو صاغرا.

نحن نعرف ان تلك الأقلام المأجورة والأصوات القبيحة... تعرف بدورها أن كل خرجاتها غير حقيقية وغير موضوعية.. لكنها تركع لسادتها و لأولياء نعمتها الفائحة برائحة غاز سونطراك..
لكن لابأس من تذكير أصحاب "ذاكرة السمك" ان المغرب اختار طواعية طريق الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، كما اختار طريق مأسسة حقوق الإنسان (وزارة حقوق الإنسان. المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والمجلس الوطني لحقوق الانسان والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الانسان....).

والبداية كانت مع المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثــراه بقول بليغ وعميق من أعلى منبر البرلمان في آخر افتتاح له للدورة النيابية في أكتوبر 1998 من أجل الطي النهائي لكل الملفات العالقة و..."حتى لا يبقى المغرب جارا من ورائه سمعة ليست هي الحقيقة وليست مطابقة لواقعه ولا تفيده في مستقبله...".

كما قاد الحكيم الحسن الثاني رحمه الله مسلسل الانفراج السياسي والحقوقي، وهي "أمانة عظمى" صانها الملك محمد السادس في إطار التغيير داخل الاستمرارية... حيث أطلق مسلسل الحقيقة والإنصاف والمصالحة في يناير 2004 كأول بلد عربي وبشمال إفريقيا.. أو ما يعرف "بالعدالة الانتقالية"، من أجل طي صفحة الانتهاكات وتعويض ضحايا الاختفاء القسري والإعتقال التعسفي وحفظ الذاكرة وجبر الضرر وعدم تكرار الانتهاكات.

عبقرية وبصيرة ملكِ برزت في ملف طي صفحة "رمادية " بتبنى مقاربة شمولية وجريئة ومتبصرة تعتمد الانصاف ورد الاعتبار لمصالحة المغاربة مع ذاتهم وتاريخهم وتحرير طاقاتهم للإسهام في بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي.

سيذكر التاريخ ان ملك المغرب محمد السادس كان اجرأ من المؤرخين أنفسهم ورفع عنهم الحرج في سبيل قول الحقيقة ولو مُرة. وقال بنسبية بلوغ الحقيقة الكاملة التي لا يعلمها إلا الله.
وسيذكر التاريخ أن العاهل المغربي سعى الى مصالحة صادقة وكاظمة للغيظ للتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية من أجل تعبيد طريق المستقبل.

أعتقد أن هذا الحدث الحقوقي والإنساني المهم يتطلب منا المزيد من المتابعة والمزيد من القراءات الاكاديمية والإعلامية والحقوقية، وان نُبدع في تقديمه في "سرد" يرقى لقيمة تراكمه الانساني ولقوته القانونية والحقوقية...

ولعل ذاكرة الحاقدين تحتاج الى التذكير أيضا ببرنامج "مصالحة" الخاص بالمدانين في الاحداث الإرهابية، إذ رغم كل الألم والفجيعة والضحايا فإن الأمل في إعادة إصلاح وادماج السجناء المدانين بقضايا الارهاب بقي قائما. وهكذا شملت العديد منهم قرارات العفو الملكي خلال مناسبات وطنية ودينية.

وهنا أيضا، لم يكن المغرب تحت "ضغط دولي" لأن المغرب يتمتع بتراكم تاريخي كبير في مجال العفو. هذا بعيدا عن الدخول في سجالات قانونية تتعلق "بمؤسسة العفو" كمؤسسة دستورية وقانونية. وتوزيعه بين العفو الخاص والعفو العام... واعتباره كآلية عالمية / كونية نصت عليها العديد من الأنظمة العالمية وخصتها حصريا لرئيس الدولة. كالعفو الرئاسي في الانظمة الرئاسية، وبعيدا أيضا عن تفاصيل مساحات السياسة الجنائية والسياسية العقابية.

وبما أن المناسبة شرط، فلابد من التذكير بالحقيقة المزعجة لبعض هواة السباحة في المياه الآسنة برائحة غاز سونطراك... ذلك أن الجالس على عرش المغرب هو ايضا "أمير المؤمنين" وتبعا لذلك فهو رئيس المجلس العلمي الأعلى الذي يتوفر على حصرية اصدار الفتوى، ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وان الاحكام القضائية تصدر باسم جلالة الملك، لذلك فتوقيعه لقرارات العفو سواء عن سجناء الحق العام أو الخاص هو قرار سيادي / شرعي، ولا علاقة بتوقيت توقيعه لأي جهة خارجة أو ضغط خارجي.

لكنها أجندة رئيس الدولة المغربية وإرادة أمير المؤمنين يستلهم جذورها من جده الرسول الكريم يوم خاطب قريش "اذهبوا فانتم الطلقاء..." يوم فتح مكة، ومن ملوك وسلاطين الدولة المغربية فها هو السلطان محمد بن عبد الله يفاوض الفرنسيين من أجل إطلاق الاسرى المسملين حتى ولو كانوا غير مغاربة... أضف إطلاق المنصور الموحدي لأكثر من عشرين ألف قشتالي بعد هزيمتهم في معركة الارك، وعفو جده السلطان محمد الخامس طيب الله ثــراه على الباشا الكلاوي، ثم قولة والده الملك الراحل الحسن الثاني "ان الوطن غفور رحيم".

بعد كل هذا التراكم التاريخي والشرعي، سيوضح الملك محمد السادس عمق فلسفته في مجال العفو والمصالحة بقوله في يناير 2006"،... بمثابة استجابة لقوله تعالى: "فاصفح الصفح الجميل". وإنه لصفح جماعي، من شأنه أن يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي. إصلاح عميق يجعل بلادنا تتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية. وبذلكم نعبد الطريق المستقبلي...".

تاريخ طويل ولائحة أطول تؤرخ لمؤسسة العفو.. كقيمة إنسانية روحية وأخلاقية متجدرة ومتجددة في أعراف السلاطين والملوك المغاربة، لذلك فلا غرابة ان يتمتع بعض الصحافيين والمدونين ومدانين في قضايا الإرهاب بعفو ملكي يوم احتفال المغاربة بربع قرن على جلوس الملك محمد السادس على عرش اسلافه المنعمين.

لكن المضحك في الأمر، هو أنه في الوقت الذي كان افراد الشعب المغربي سواء بالداخل أو من مغاربة العالم .. يعبرون عن فرحتهم بمناسبة العفو الملكي الأخير ... فإنهم كانوا يدركون حجم الكارثة التي حلت على قبيلة الخونة بالخارج والمسترزقين والمبتزين... إذ أن قرار العفو سيقطع عليهم نعمة أوليائهم... لكننا لن نلتفت لتلك الشرذمة الفاقدة للحس الوطني والاخلاقي لضربها في مؤسسات سيادية وفي رجالات أوفياء للملك و للوطن.

وبقي أن نذكرهم أخيرا، بأن قرارات العفو هي مسألة سيادية وأمانة عظمى يحملها العاهل المغربي عن اسلافه وترسيخ لتقاليد ملكية عريقة، إذ قال "كبير العائلة" في سنوات عهده الأولى، موجها البوصلة نحو المستقبل..."كفى من الأنانية والانطواء على ذواتنا وهدر الفرص الثمينة واستنزاف الطاقات في معارك وهمية وقد آن الأوان لتدبر حاضر أبنائنا ومستقبلهم. فشبابنا لن يتفهموا عدم تحقيق تطلعاتهم المشروعة للعيش الحر الكريم".

فبين يناير 2004 وصيف 2024.. عشرون سنة من العمل الجاد في مجالات التسوية والانصاف والمصالحة والعدالة الإنتقالية ودسترة حقوق الإنسان وترسيخ ممارستها والعديد من قرارات العفو الملكي.. ولا عزاء للحاقدين.