بدأت إسرائيل غزوها الفعلي لفلسطين مع بداية عشرينيات القرن الماضي، الذي تطوّر مع الوقت، بحيث استولت على أغلبية أراضيها، وتمكّنت من تأسيس دولتها مع نهاية النصف الأول من القرن الماضي، ونجحت في كل حروبها، العسكرية والثقافية والرياضية والإعلامية، مع أعدائها العرب. ومع كل ما حققته من نجاح مستمر على مدى مئة عام، فإن الأشهر العشرة الأخيرة كانت الفترة الأكثر سوءاً في تاريخها، ولا أعتقد أنها مرّت، على مدى المئة عام الماضية، بمثل ما تمرّ به هذه الأيام من قلق يبلغ درجة الهلع، والحيرة، والهوان، والشعور المؤكد بأن اعتمادها التام على الدعم الغربي، الأمريكي بالذات، هو الذي يجعلها تبقى وتستمر، وبغيابه، أو حتى بضعفه، سيبدأ العد التنازلي في زوالها.

يحدث كل هذا الشعور بالضعف، بالرغم من أن العرب، أعداءها التاريخيين، هم الآن في أضعف حالاتهم وتشرذمهم، وكل ذلك حصل بعد السابع من أكتوبر 2023، وهي حالة لم تعرفها إسرائيل حتى في أحلك ساعات حروبها المتعددة، وهذا ما يجب على الجميع، وبالذات الإعلاميين، الذين تم تأجيرهم للدفاع عنها، علناً أو بطريقة غير مباشرة، الإقرار به، شئنا أم أبينا، وهي حالة تاريخية فريدة تمكّن فيها فصيل عسكري «مؤدلج دينياً»، لا يبدو شيئاً، مقارنة بقوة إسرائيل النووية، منتمٍ إلى شعب مسحوق ومظلوم، ومحتل منذ 76 عاماً من الوقوف في وجه دولة، هي الأكثر قوة في المنطقة، والأكثر خبرة مخابراتياً، والأقوى تسليحاً وتدريباً، والتي تتلقى كامل الدعم المالي والعسكري والسياسي من دول عظمى، ولقرابة عشرة أشهر، وإن بثمن غالٍ لا يعوّض، ولكن ما هو أسوأ من خسارة الأرواح والأموال العيش في ذل مستمر إلى الأبد!

* * *

نعيد ونكرر عدم انسجامنا ولا اتفاقنا مع كل ما تمثله «حماس» من فكر سياسي متشدد، والرفض يشمل كل من يؤيدها، عقائدياً، لكن ذلك لا يعني اختلافنا مع الحق الفلسطيني في وطن سيّد حر، بأي ثمن، وهذا ما لا يريد البعض تفهمه أو استيعابه، رافضين الكفاح المسلّح، بحجة أن حجم الدمار البشري والنفسي والعمراني، الذي أصاب أكثر من مليوني فلسطيني، لا يستحق وطناً سيّداً وكرامة أبدية! ويصرّون على وصف تصرّف «حماس» بالغبي والطائش والمجرّم، لكن هؤلاء وغيرهم عجزوا عن تقديم البديل لحالة الذل الفلسطينية المستمرة منذ 76 عاماً، وإصرار الصهاينة، دون مواربة، وبكل وقاحة، على محو كل الوجود الفلسطيني، وإزالة حق العودة من الذاكرة الفلسطينية، سواء بالقتل أو التشريد، أو إعادة توطينهم بعيداً عن أرضهم.

أتمنى على كل من يعارض وجهة نظري أن يضع نفسه في وضع ومكان ملايين الفلسطينيين، الذين يعيشون في مخيمات «مؤقتة» منذ أكثر من سبعين عاماً في الأراضي المحتلة والأردن ودمشق، ومخيمات صبرا وشاتيلا والمية ومية في لبنان، وغيرها الكثير!

لقد ارتكبت القيادات الفلسطينية، على مدى المئة عام الأخيرة، أخطاء قاتلة بحق شعبها، واخترقت الخيانات أعز أسرارهم، وقاتلوا وقتلوا، وخوّن بعضهم بعضاً، وأثروا من القضية بطريقة رهيبة، لكن كل ذلك لا يعني أن علينا معاقبة أو القصاص من تسعة ملايين فلسطيني، ونسلبهم حقهم، لأن البعض منهم خان أو جبن أو أخطأ!


أحمد الصراف